الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (24)

قوله : { أَوْ إِيَّاكُمْ } : عطفٌ على اسم إنَّ . وفي الخبرِ أوجهٌ ، أحدها : أنَّ الملفوظَ به الأولُ وحُذِفَ خبرُ الثاني للدلالة عليه . أي : وإنَّا لعَلى هُدىً أو في ضلال ، أو إنكم لعلى هدىً أو في ضلالٍ . والثاني : العكسُ أي : حُذِف الأولُ ، والمَلْفوظُ به خبرُ الثاني . وهو خلافٌ مشهورٌ تقدَّم تحقيقُه عند قولِه : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] . وهذان الوجهان لا يَنْبغي أَنْ يُحْمَلا على ظاهرهِما قطعاً ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يَشُكَّ أنه على هدىً ويقينٍ ، وأنَّ الكفارَ على ضلالٍ ، وإنما هذا الكلامُ جارٍ على ما يَتَخاطَبُ به العربُ من استعمالِ الإِنصاف في محاوراتِهم على سبيل الفَرَضِ والتقدير ويُسَمِّيه أهلُ البيانِ الاستدراجِ وهو : أَنْ يَذْكُرَ لمخاطبهِ أمراً يُسَلِّمه ، وإنْ كان بخلافِ ما يَذْكر حتى يُصْغَي إلى ما يُلْقيه إليه ، /إذ لو بدأه بما يَكْرَهُ لم يُصْغِ . ونظيرُه قولُهم : أَخْزَى اللَّهُ الكاذبَ مني ومنك . ومثلُه قولُ الشاعر :

3739 فَأَيِّي ما وأيُّك كان شَرَّاً *** فَقِيْدَ إلى المَقامةِ لا يَرَاها

وقولُ حسان :

3740 أَتَهْجُوه ولَسْتَ له بكُفْءٍ *** فَشَرُّكُما لخيرِكما الفِداءُ

مع العلم لكلِّ أحدٍ أنه صلَّى الله عليه وسلَّم خيرُ خَلْقِ اللَّهِ كلِّهم .

الثالث : أنه من بابِ اللفِّ والنَّشْرِ . والتقدير : وإنَّا لعلى هُدَىً وإنكم لفي ضلال مبين . ولكن لَفَّ الكلامين وأخرجَهما كذلك لعدمَ اللَّبْسِ ، وهذا لا يتأتَّى إلاَّ أَنْ تكونَ " أو " بمعنى الواوِ وهي مسألةُ خلافٍ . ومِنْ مجيءِ " أو " بمعنى الواو قولُه :

3741 قَوْمٌ إذا سَمِعوا الصَّرِيْخَ رَأَيْتَهُمْ *** ما بين مُلْجم مُهْره أو سافِعِ

وتقدَّم تقريرُ هذا وهذا الذي ذكرْتُه منقولٌ عن أبي عبيدة . الرابع : قال الشيخ : " وأو هنا على موضوعِها لكونِها لأحدِ الشيئَيْن وخبرُ { إِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ } هو { لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ولا يُحتاج إلى تقديرِ حذفٍ ؛ إذ المعنى : أنَّ أحَدنا لَفي أحدِ هذَيْن كقولِك : زيدٌ أو عمروٌ في القصر أو في المسجدِ لا يُحتاج إلى تقديرِ حَذْفٍ إذ معناه : أحدُ هذَيْن في أحدِ هذين . وقيل : الخبرُ محذوفٌ ، ثم ذَكَرَ ما قَدَّمْتُ إلى آخره . وهذا الذي ذكره هو تفسيرُ معنًى لا تفسيرُ إعرابٍ ، والناسُ نظروا إلى تفسيرِ الإِعراب فاحتاجوا إلى ما ذكرْتُ .