الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلۡكَعۡبَةَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ قِيَٰمٗا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَٱلۡهَدۡيَ وَٱلۡقَلَـٰٓئِدَۚ ذَٰلِكَ لِتَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (97)

قوله تعالى : { جَعَلَ اللَّهُ } : فيها وجهان ، أحدهما : أنها بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لاثنين ، أولهما " الكعبة " والثاني " قياماً " والثاني : أن تكون بمعنى خلق فتتعدى لواحد ، وهو " الكعبة " و " قياماً " نصبٌ على الحال . وقال بعضهم : إنَّ " جعل " هنا بمعنى " بَيَّن " و " حَكَم " ، وهذا ينبغي أن يُحْمل على تفسير المعنى لا تفسير اللغة ؛ إذ لم ينقل أهلُ العربية أنها تكونُ بمعنى بَيَّن ولا حَكَم ، ولكن يلزم من الجَعْلِ البيانُ ، وأمَّا " البيتَ " فانتصابُه على أحد وجهين : إما البدلِ وإما عطفِ البيان ، وفائدةُ ذلك أن بعض الجاهلية - وهم خثعم- سَمَّوْا بيتاً الكعبةَ اليمانية فجيء بهذا البدلِ أو البيانِ تبييناً له من غيره . وقال الزمخشري : " البيتَ الحرامَ " عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفةُ كذلك " واعترض عليه الشيخ بأن شرطَ البيانِ الجمودُ ، والجمودُ لا يُشْعر بمدح ، وإنما يُشْعر به المشتقُّ ، ثم قال : " إلا أَنْ يريدَ أنه لَمَّا وُصِف البيت بالحرام اقتضى المجموعُ ذلك فيمكنُ " .

والكعبة لغةً : كلُّ بيت مربع ، وسُمِّيَتْ الكعبةُ كعبةً لذلك ، وأصل اشتقاق ذلك من الكَعْب الذي هو أحد أعضاء الآدمي . قال الراغب : " كَعْبُ الرجل " [ العظم ] الذي عند مُلْتقى الساق والقدم ، والكعبة كلُّ بيتٍ على هيئتِها في التربيع ، وبها سُمِّيَتِ الكعبة ، وذُو الكَعَبات : بيتٌ كان في الجاهلية لبني ربيعة ، وامرأة كاعِب : تكعَّب ثدياها " وقد تقدَّم القولُ في هذه المادةِ أولَ السورة .

والجمهور قرؤوا هنا : " قياماً " بألفٍ بعد الياء ، وابن عامر : " قِيَماً " دون ألف بزنة " عِنَب " ، والقيام هنا يحتمل أن يكون مصدراً ل " قام - يقوم " والمعنى : أنَّ اللَّهَ جعل الكعبةَ سبباً لقيامِ الناس إليها ، أي : لزيارتِها والحجِّ إليها ، أو لأنَّها يَصْلُح عندها أمرُ دينهم ودنياهم ، فيها يَقُومون ، ويجوزُ أَنْ يكونَ القيامُ بمعنى القِوام فَقُلبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها ، كذا قالَ الواحدي ، وفيه نظرٌ إذ لا موجبَ لإِعلاله إذ هو ك " السِّواك " فينبغي أن يقال : إن القِيام والقِوام بمعنى واحد ، قال :

قِوامُ دنيا وقِوامُ دينِ ***

فأمَّا إذا دخَلَها تاءُ التأنيث لَزِمَتِ الياءُ نحو : " القيامة " وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فاستشكلها بعضُهم بأنه لا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يكونَ مصدراً على فِعَل ، وإما أن يكونَ على فِعال ، فإنْ كان الأول فينبغي أن تصِحُّ الواو ك " حِوَل " و " عَوَر " وإن كان الثاني فالقصر لا يأتي إلا في شعر . وقرأ الجحدري : " قَيِّماً " بتشديد الياء وهو اسمٌ دالٌّ على ثبوت الصفة ، وقد تقدَّم تحقيقُه أول النساء .

قوله : { وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ } عطف على " الكعبة " ، والمفعول الثاني أو الحال محذوفٌ لفهم المعنى أي : جَعَلَ الله أيضاً الشهرَ والهَدْيَ والقلائدَ قياماً . و " ذلك " فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي : الحُكْمُ الذي حَكَمْناه ذلك لا غيرُه . والثاني : أنه مبتدأ وخبره محذوف أي : ذلك الحكمُ هو الحقُّ لا غيره . الثالث : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه السِّياقُ أي : شَرَعَ اللَّهُ ذلك ، وهذا أقواها لتعلُّقِ لام العلة به . و " تعلموا " منصوبٌ بإضمار " أَنْ " بعد لام كي ، لا بها . و " أَنَّ الله " وما في حَيِّزها سادَّةٌ مسدَّ المفعولين أو أحدِهما على حَسَبِ الخلاف المتقدم . و { وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } نسقٌ على " أنَّ " قبلها/ .