البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖۘ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّآ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۚ وَإِن لَّمۡ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (73)

{ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } هؤلاء هم الملكية من النصارى القائلون بالتثليث .

وظاهر قوله : ثالث ثلاثة ، أحد آلهة ثلاثة .

قال المفسرون : أرادوا بذلك أن الله تعالى وعيسى وأمه آلهة ثلاثة ، ويؤكده { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } { ما اتخذ صاحبة ولا ولداً } { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } وحكى المتكلمون عن النصارى أنهم يقولون : جوهر واحد ثلاثة أقانيم : أب ، وابن ، وروح قدس .

وهذه الثلاثة إله واحد ، كما أن الشمس تتناول القرص والشعاع والحرارة ، وعنوا بالأب الذات ، وبالابن الكلمة ، وبالروح الحياة .

وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا : إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالحمر ، أو اختلاط اللبن بالماء ، وزعموا أن الأب إله ، والابن إله ، والروح إله ، والكل إله واحد .

وهذا معلوم البطلان ببديهة العقل أن الثلاثة لا تكون واحداً ، وأن الواحد لا يكون ثلاثة ، ولا يجوز في العربية في ثالث ثلاثة إلا الإضافة ، لأنك لا تقول ثلثت الثلاثة .

وأجاز النصب في الذي يلي اسم الفاعل الموافق له في اللفظ أحمد بن يحيى ثعلب ، وردّوه عليه جعلوه كاسم الفاعل مع العدد المخالف نحو : رابع ثلاثة ، وليس مثله إذ تقول : ربعت الثلاثة أي صيرتهم بك أربعة .

{ وما من إله إلا إله واحد } معناه لا يكون إله في الوجود إلا متصفاً بالوحدانية ، وأكد ذلك بزيادة من الاستغراقية وحصر إلهيته في صفة الوحدانية .

وإله رفع على البدل من إله على الموضع .

وأجاز الكسائي اتباعه على اللفظ ، لأنه يجيز زيادة من في الواجب ، والتقدير : وما إله في الوجود إلا إله واحد أي : موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله تعالى .

{ وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } أي عما يفترون ويعتقدون في عيسى من أنه هو الله ، أو أنه ثالث ثلاثة ، أوعدهم بإصابة العذاب الأليم لهم في الدنيا بالسبي والقتل ، وفي الآخرة بالخلود في النار ، وقدم الوعيد على الاستدلال بسمات الحدوث إبلاغاً في الزجر أي : هذه المقالة في غاية الفساد ، بحيث لا تختلف العقول في فسادها ، فلذلك توعد أوّلاً عليها بالعذاب ، ثم اتبع الوعيد بالاستدلال بسمات الحدوث على بطلانها .

وليمسنّ اللام فيه جواب قسم محذوف قبل أداة الشرط ، وأكثر ما يجيء هذا التركيب وقد صحبت أن اللام المؤذنة بالقسم المحذوف كقوله : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم } ونظير هذه الآية : { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } ومثله : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } ومعنى مجيء إن بغير باء ، دليل على أنه قبل إنْ قسم محذوف إذ لولا نية القسم لقال : فإنكم لمشركون الذين كفروا أي : الذين ثبتوا على هذا الاعتقاد .

وأقام الظاهر مقام المضمر ، إذ كان الربط يحصل بقوله : ليمسنهم ، لتكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله : لقد كفر وللإعلام بأنهم كانوا بمكان من الكفر ، إذ جعل الفعل في صلة الذين وهي تقتضي كونها معلومة للسامع مفروغاً من ثبوتها ، واستقرارها لهم ومن في منهم للتبعيض ، أي كائناً منهم ، والربط حاصل بالضمير ، فكأنه قيل : كافرهم وليسوا كلهم بقوا على الكفر ، بل قد تاب كثير منهم من النصرانية .

ومن أثبت أنّ مَن تكون لبيان الجنس أجاز ذلك هنا ، ونظره بقوله : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان }