الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوٓءَۢا بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (54)

قوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَكَ } : " إذا " منصوب بجوابه أي : فقلْ : سَلامٌ عليكم وقتَ مجيئهم أي : أوقع هذا القول كلَّه في وقت مجيئهم إليك ، وهذا معنى واضح . وقال أبو البقاء : " العامل في " إذا " معنى الجواب أي : إذا جاؤوك سلِّمْ عليهم " ولا حاجةَ تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى ، لأن كونه يبلَّغهم السلام والإِخبارَ بأنه كتب على نفسه الرحمة ، وأنه من عَمِل سوءاً بجهالة غفر له ، لا يقوم مقامَه السَّلامُ فقط ، وتقديره يُفْضي إلى ذلك .

وقوله : { سَلاَمٌ } مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كان نكرةً لأنه دعاءٌ ، والدعاء من المسوِّغات . وقال أبو البقاء : " لما فيه من معنى الفعل " وهذا ليس من مذهب جمهور البصريين إنما هو شيء نُقل عن الأخفش : أنه إذا كانت النكرة في معنى الفعل جاز الابتداء بها ورَفْعُها الفاعل وذلك نحو : قائمٌ أبواك ، ونَقَل ابن مالك أن سيبويه أومأ إلى جوازه ، واستدل الأخفش بقوله :

خبيرٌ بنو لِهْبٍ فلاتك مُلْغِياً *** مقالةَ لِهْبِيِّ إذا الطيرُ مَرَّتِ

ولا دليلَ فيه ؛ لأنَّ فَعيلاً يقع بلفظ واحد للمفرد وغيره ، ف " خبير " خبرٌ مقدَّمٌ ، واستدلَّ له أيضاً بقول الآخر :

فخيرٌ نحنُ عند الناسِ منكمْ *** إذا الداعي المثوِّبُ قال يالا

فخير مبتدأ ، و " نحن " فاعل سدَّ مَسَدَّ الخبر ، فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون " خير " خبراً مقدماً ، " ونحن " مبتدأ مؤخر ؟ قيل : لئلا يلزم الفصلُ بين أفعل و " مِنْ " بأجنبي بخلاف جَعْلِه فاعلاً ، فإن الفاعلَ كالخبر بخلاف المبتدأ ، وهذا القدرُ في هذا الموضع كافٍ والمسألةُ قد قرَّرتُها في غير هذا الموضوع ، و " عليكم " خبرُه ، و " سلام عليكم " أبلغُ من " سلاماً عليكم " . بالنصب ، وقد تقرَّر هذا في أول الفاتحة عند قراءة " الحمدُ " و " الحمدَ " .

وقوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ } في محل نصب بالقول لأنه كالتفسير لقوله { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } .

قوله { أنَّه ، فأنَّه } قرأ ابن عامر وعاصم بالفتح فيهما ، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالكسر فيهما ، ونافع بفتح الأولى وكسر الثاينة ، وهذه القاراءتُ الثلاثُ في المتواتر ، والأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية عكسَ قراءة نافع ، هذه رواية الزهراوي عنه وكذا الداني . وأمَّا سيبويه فروى قراءته كقراءة نافع ، فيحتمل أن يكون عن روايتان . فأمَّا القراءة الأولى فَفَتْحُ الأولى فيها مِنْ أربعة أوجه ، أحدها : أنها بدل من الرحمة بدل شيء من شيء والتقدير : كتب على نفسه أنه من عمل إلى آخره ، فإنَّ نفس هذه الجملِ المتضمنةِ للإِخبار بذلك رحمة . والثاني : أنها في محل رفع على أنها مبتدأ ، والخبر محذوف أي : عليه أنه من عمل إلى آخره .

والثالث : أنها فتحت على تقدير حذف حرف الجر ، والتقدير : لأنه مَنْ عمل ، فلما حُذِفت اللامُ جرى في محلها الخلاف المشهور . الرابع : أنها مفول ب " كتب " و " الرحمة " مفعول من أجله ، أي : كتب أنه مَنْ عَمِل لأجل رحمته إياكم . قال الشيخ : " وينبغي أن لا يجوز لأن فيه تهيئة العامل للعمل وقَطْعَه منه " .

وأمَّا فَتْحُ الثانية فمن خمسة أوجه ، أحدها : أنها في محل رفع على أنها مبتدأ والخبر محذوف أي : فغفرانُه ورحمتُه حاصلان أو كائنان ، أو فعليه غفرانه ورحمته . وقد أجمع القرَّاء على فتح ما بعد فاء الجزاء في قوله :

{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ التوبة : 63 ]

{ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّه } [ الحج : 4 ] كما أجمعوا على كسرها في قوله : { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ }

[ الجن : 23 ] الثاني : أنها في محل رفعٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف أي : فأمرُه أو شأنه أنه غفور رحيم . الثالث : أنها تكريرٌ للأولى كُرِّرت لمَّا طال الكلام وعُطِفت عليها بالفاء ، وهذا منقولٌ عن أبي جعفر النحاس . وهذا وهمٌ فاحش لأنه يلزم منه أحد محذورين : إمَّا بقاءُ مبتدأ بلا خير أو شرط بلا جواب ، وبيان ذلك أن " مِنْ " في قوله : { أَنَّهُ مَن عَمِلَ } لا تخلو : إمَّا أن تكون موصولةً أو شرطية ، وعلى كلا التقديرين فهي في محل رفع بالابتداء ، فلو جعلنا " أن " الثانية ، معطوفة على الأولى لزم عدم خبر المبتدأ وجواب الشرط ، وهو لا يجوز .

قد ذكر هذا الاعتراضَ وأجاب عنه الشيخ شهاب الدين أو شامة فقال : " ومنهم مَنْ جعل الثانيةَ تكريراً للأولى لأجل طول الكلام على حد قوله :

{ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [ المؤمنون : 35 ] ودخلت الفاء في " فأنه غفورٌ " على حَدِّ دخولها في { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } [ آل عمران : 188 ] على قول مَنْ جعله تكريراً لقولَه : { لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ } [ آل عمران : 188 ] إلا أن هذا ليس مثلَ " أيعدكم أنَّكم " ؛ لأنَّ هذه لا شرطَ فيها وهذه فيها شرط ، فيبقى بغير جواب . فقيل : الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره : غفر لهم " انتهى . وفيه بُعْدٌ ، وسيأتي هذا الجواب أيضاً في القراءة الثانية منقولاً عن أبي البقاء ، وكان ينبغي أن يجيب به هنا لكنه لم يفعلْ ، ولم يظهرْ فرقٌ في ذلك .

الرابع : أنها بدل من " أنَّ " الأولى ، وهو قول الفراء والزجاج وهذا مردودٌ بشيئين ، أحدهما : أنَّ البدلَ لا يَدْخُل فيه حرفُ عطف ، وهذا مقترنٌ بحرفِ العطف ، فامتنع أن يكون بدلاً . فإن قيل : نجعل الفاء زائدةً . فالجواب أن زيادتها غيرُ جائزة ، وهي شيء قال به الأخفش ، وعلى تقدير التسليم فلا يجوز ذلك من وجهٍ آخر : وهو خلوٌّ المبتدأ أو الشرط عن خبر أو جواب .

والثاني من الشيئين : خلوُّ المبتدأ أو الشرط عن الخبر أو الجواب ، كما تقدَّم تقريره : فإن قيل : نجعل الجوابَ محذوفاً - كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي شامة - قيل : هذا بعيدٌ عن الفَهْم .

الخامس : أنها مرفوعةٌ بالفاعلية ، تقديره : فاستقرَّ له أنه غفورٌ أي : استقرَّ له وثَبَتَ غُفرانه ، ويجوز أن نُقَدِّر في هذا الوجه جارَّاً رافعاً لهذا الفاعلِ عند الأخفش تقديره : فعليه أنه غفور ، لأنه يُرْفَعُ به وإن لم يَعْتمد ، وقد تقدَّم تحقيقهُ غيرَ مرَّة .

وأما القراءة الثانية : فكسْرُ الأولى من ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها مستأنفة وأن الكلام تام قبلها ، وجيء بها وبما بعدها كالتفسير لقوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } والثاني : أنها كُسِرَتْ بعد قولٍ مقدَّر أي : قال الله ذلك ، وهذا في المعنى كالذي قبله . والثالث : أنه أجرى " كتب " مُجْرى " قال " فكُسِرَتْ بعده كما تُكْسرُ بعد القول الصريح ، وهذا لا يتمشَّى على أصول البصريين . وأمَّا كَسْرُ الثانية فمن وجهين ، أحدهما : أنها على الاستئناف ، بمعنى أنها في صدر جملة وقعت خبراً ل " مَنْ " الموصولة ، أو جواباً لها إن كانت شرطاً . والثاني : أنها عطفٌ على الأولى وتكرير لها ، ويُعْترض على هذا بأنه يلزم بقاءُ المبتدأ بلا خبر أو الشرط بلا جزاء ، كما تقدَّم ذلك في المفتوحتين .

وأجاب أبو البقاء هنا عن ذلك بأن خبر " مَنْ " محذوفٌ دلَّ عليه الكلام ، وقد قدَّمْتُ لك أنه كان ينبغي أن يُجيب بهذا الجواب في المفتوحتين عند مَنْ جعل الثانية تكريراً للأولى أو بدلاً منها ، ثم قال : " ويجوزُ أن يكونَ العائدُ محذوفاً أي : فإنه غفورٌ له " قلت : قوله " ويجوز " ليس بجيدٍ ، بل كان ينبغي أن يقول ويجب ، لأنه لا بد من ضمير عائد على المبتدأ من الجملة الخبرية ، أو ما يقوم مقامه إن لم يكنْ نفسَ المبتدأ .

وأمَّا القراءةُ الثالثة : فيؤخذُ فتحُ الأولى وكَسْرُ الثانية مما تقدَّم مِنْ كسرِها وفتحها بما يليق من ذلك ، وهو ظاهر .

وأمَّا القراءة الرابعة فكذلك وقال أبو شامة : " وأجاز الزجاجُ كَسْرَ الأولى وفَتْحَ الثانية وإن لم يُقرأ به " قلت : قد قدَّمْتُ أن هذه قراءةُ الأعرج وأن الزهراوي وأبا عمرو الداني نقلاها ، عنه فكأن الشيخ لم يَطِّلِعْ عليها وقَدَّمْتُ لك أيضاً أنَّ سيبويه لم يَرْوِ عن الأعرج إلا كقراءة نافع ، فهذا ممَّا يصلح أن يكون عذراً للزجاج ، وأما أبو شامة فإنه متأخر ، فعدمُ اطِّلاعِه عجيب .

والهاء في " أنَّه " ضمير الأمر والقصة . و " مَنْ " يجوز أن تكون شرطيةً وأن تكون موصولة ، وعلى كل تقدير فهي مبتدأَةٌ ، والفاءُ وما بعدها في محل جزم جواباً إن كانت شرطاً ، وإلاَّ ففي محلِّ رفعٍ خبراً إن كانت موصولة ، والعائد محذوف أي : غفول له .

والهاء في " بعده " يجوز أن تعود على " السوء " وأن تعود على العمل المفهوم من الفعل كقوله : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] ، والأولى أولى لأنه أصرح ، و " منكم " متعلِّقٌ بمحذوف إذ هو حالٌ من فاعل " عمل " ، ويجوز أن تكون " مِنْ " للبيان فيعمل فيها " أعني " مقدراً .

وقوله { بِجَهَالَةٍ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه يتعلَّق ب " عمل " على أن الباءَ للسببيةِ أي : عملُه بسبب الجهل . وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجه عن ذلك بالمفعول به وليس بواضح . والثاني - وهو الظاهر - أنها للحال أي : عملُه مصاحباً للجهالة . " ومِنْ " في " مِنْ بعده " لابتداء الغاية .