الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{حَقِيقٌ عَلَىٰٓ أَن لَّآ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ قَدۡ جِئۡتُكُم بِبَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَرۡسِلۡ مَعِيَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ} (105)

قوله تعالى : { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ } : قرأ العامة " على أَنْ " ب " على " التي هي حرف جر داخلة على أَنْ وما في حيزها . ونافع قرأ " عليَّ " ب " على " التي هي حرف جر داخلة على أَنْ وما في حيزها . ونافع قرأ " عليَّ " ب " على " التي هي حرف جر داخلة على ياء المتكلم . فأمَّا قراءةُ العامة ففيها ستة أوجه ، ذكر الزمخشري منها أربعة ، قال رحمه الله : " وفي المشورةِ إشكالٌ ، ولا يخلو من وجوه ، أحدها : أن تكون مِمَّا قُلب من الكلام كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وتَشْقى الرماحُ بالضَّياطرة الحُمْرِ

معناه : وتشقى الضياطرةُ بالرماح . قال الشيخ : " وأصحابُنا يَخُصُّون القلبَ بالضرورةِ ، فينبغي أَنْ يُنَزَّهَ القرآنُ عنه " . قلت : وللناس فيه ثلاثةُ مذاهبَ : الجوازُ مطلقاً ، المنعُ مطلقاً ، التفصيلُ : بين أن يفيد معنًى بديعاً فيجوزَ ، أو لا فيمتنعَ ، وقد تقدَّم إيضاحهُ ، وسيأتي منه أمثلةٌ أُخَرُ في القرآن العزيز . وعلى هذا الوجهِ تصيرُ هذه القراءةُ كقراءةِ نافعٍ في المعنى إذ الأصل : قولُ الحق حقيقٌ عليَّ ، فقلبَ اللفظَ فصار : أنا حقيقٌ على قَوْل الحق " . قال : " والثاني : أنَّ ما لَزِمك فقد لزمته ، فلمَّا كان قولُ الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قولِ الحق أي لازماً له ، والثالث : أن يُضَمَّن حقيق معنى حريص كما ضمن " هَيَّجني " معنى ذكَّرني في بيت الكتاب ، الرابع : أن تكون " على " بمعنى الباء " . قلت : وبهذا الوجه قال أبو الحسن والفراء والفارسي . قالوا : إنَّ " على " بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى على في قوله : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ } [ الأعراف : 86 ] أي : على كل . وقال الفراء : " العربُ تقول : رَمَيْتُ على القوس وبالقوس ، وجِئْتُ على حالٍ حسنة وبحال حسنة . إلا أن الأخفشَ قال : " وليس ذلك بالمطَّرِدِ لو قلت : ذهبت على زيد تريد : بزيدٍ لم يجز " . قلت : ولأنَّ مذهب البصريين عدمُ التجوُّز في الحروف ، وعَنَى بالبيت قولَ الشاعر :

إذا تَغَنَّى الحَمامُ الوَرْقُ هَيَّجني *** ولو تَسَلَّيْتُ عنها أمَّ عمار

وبالكتاب كتابَ سيبويه فإنه عَلَمٌ بالغلبة عند أهل هذه الصناعة . الخامس : وهو الأَوْجَهُ والأَدْخَلُ في نُكت القرآن أن يُغْرِق موسى عليه السلام في وصفِ نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد رُوِيَ أنَّ فرعون لعنه الله لمَّا قال موسى : إني رسولٌ من رب العالمين قال له : كَذَبْت ، فيقول : أنا حقيقٌ على قولِ الحق أي : واجبٌ عليَّ قولُ الحق أن أكونَ أنا قائلَه ، والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به " . قال الشيخ : " ولا يَصِحُّ هذا الوجهُ إلا إنْ عَنَى أنه يكون " أن لا أقول " صفةٌ له كما تقول : أنا على قول الحق أي : طريقتي وعادتي قول الحق .

السادس : أن تكون " على " متعلقةً ب " رسول " . قال ابن مقسم :/ " حقيقٌ من نعت " رسول " أي رسول حقيق من رب العالمين أُرْسِلْتُ على أنْ لا أقول على الله إلا الحق ، وهذا معنى صحيح واضح ، وقد غَفَل أكثرُ المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق " على " برسول ، ولم يخطر لهم تعليقُه إلا ب " حقيق " .

قال الشيخ : " وكلامُه فيه تناقضٌ في الظاهر ؛ لأنه قَدَّر أولاً العاملَ في " على " " أرسلت " وقال أخيراً : " لأنهم غَفَلوا عن تعليق " على " ب " رسول " . فأمَّا هذا الأخيرُ فلا يجوز عند البصريين لأنَّ " رسولاً " قد وُصِف قبل أن يأخَذَ معمولَه ، وذلك لا يجوز ، وأمَّا تعليقُه بأرسلت مقدَّراً لدلالةِ لفظ " رسول " عليه فهو تقديرٌ سائغ . ويُتَأَوَّل كلامه أنه أراد بقوله تُعَلَّقُ " على " ب " رسول " أنه لمَّا كان دالاًّ عليه صَحَّ نسبةُ التعلُّق له " قلت : قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة بعد ما ذكر هذا الوجهَ عن ابن مقسم : " والأوجهُ الأربعة التي للزمخشري . ولكن هذه وجوه متعسِّفة ، وليس المعنى إلا على ما ذكرته أولاً ، يعني وجه ابن مقسم ، وهذا فيه الإِشكالُ الذي ذكره الشيخ من إعمالِ اسم الفاعلِ أو الجاري مَجْراه وهو موصوف .

وقراءةُ نافعٍ واضحةٌ وفيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكونَ الكلامُ قد تمَّ عند قولِه " حقيق " ، و " عليَّ " خبر مقدم ، و " أنْ لا أقول " مبتدأ مؤخَّر كأنه قيل : عليَّ عدمُ قول غير الحق أي : فلا أقول إلا الحق . الثاني : أن يكون " حقيق " خبراً مقدَّماً ، و " أن لا أقول " مبتدأٌ على ما تقدَّم بيانه . الثالث : " أَنْ لا أقول " فاعِلٌ ب " حقيق " كأنه قيل : يحقُّ ويجب أن لا أقول ، وهذا أَعْرَبُ الوجوهِ لوضوحه لفظاً ومعنى ، وعلى الوجهين الأخيرين تتعلَّق " عليَّ " ب " حقيق " لأنك تقول : " حَقَّ عليه كذا " . قال تعالى : { أولئك الذين حَقَّ عليهم القولُ } . وعلى الوجهِ الأولِ يتعلَّقُ بمحذوفٍ على ما عُرِفَ غيرَ مرة .

وأمَّا رفع " حقيق " فقد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون خبراً مقدماً ، ويجوزُ أن يكونَ صفةً ل " رسول " ، وعلى هذا فيضعف أن يكون " مِنْ رب " صفةً لئلا يلزمَ تقديمُ الصفةِ غيرِ الصريحة على الصريحة ، فينبغي أن يكونَ متعلَّقاً بنفس " رسول " ، وتكون " مِنْ " لابتداء الغاية مجازاً .

ويجوز أن يكونَ خبراً ثانياً . ويجوز أن يكونَ مبتدأً وما بعدَه الخبرُ على قراءةِ مَنْ شَدَّدَ الياء ، وسَوَّغ الابتداءَ بالنكرة حينئذ تَعَلُّقُ الجارِّ بها .

فقد تحصَّل في رفعه أربعة أوجه ، وهل هو بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول ؟ الظاهرُ أنه يحتمل الأمرين مطلقاً ، أعني على قراءة نافع وعلى قراءة غيره . وقال الواحدي ناقلاً عن غيره : " إنه مع قراءة نافعٍ مُحتمل للأمرين ، ومع قراءة العامة بمعنى مفعول فإنه قال : " وحقيق على هذا القراءة يعني قراءة نافع يجوز أن يكونَ بمعنى فاعِل ، قال شمر : تقولُ العرب : " حَقَّ عليّ أن أفعل كذا " . وقال الليث : حقَّ الشيء معناه وَجَبَ ، ويحق عليك أن تفعلَه ، وحقيقٌ عليَّ أن أفعله ، فهذا بمعنى فاعل " ثم قال : " وقال الليث : وحقيقٌ بمعنى مفعول ، وعلى هذا تقول : فلان مَحقوقٌ عليه أن يفعل . قال الأعشى :

لمَحْقوقَةٌ أن تستجيبي لِصَوْتِه *** وأن تعلمي أنَّ المُعَانَ مَوَفَّقٌ

وقال جرير :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** قَصِّرْ فإنك بالتقصيرِ محقوقُ

ثم قال : " وحقيق على هذه القراءة يعني قراءة العامة بمعنى محقوق " انتهى .

وقرأ أُبَيٌّ " بَأَنْ لا أقول " وهذه تُقَوِّي أنَّ " على " بمعنى الباء . وقرأ عبد الله والأعمش " أنْ لا أقول " دون حرف جر ، فاحتمل أن يكونَ ذلك الجارُّ " على " كما هو قراءة العامة ، وأن يكون الجارُّ الباءَ كما هو قراءة أبيّ .

و " الحقَّ " يجوز أن يكون مفعولاً به لأنه يتضمَّن معنى حَمَّله ، وأن يكونَ منصوباً على المصدر أي : القول الحقَّ ، والاستثناءُ مفرغ .