قوله تعالى : { فدلاهما بغرور } : الباء للحال أي : مصاحبين للغرور أو مصاحباً للغرور فهي حال : إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول . ويجوز أن تكون الباءُ سببيةً أي : دَلاَّهما بسبب أن غرَّهما . والغُرور مصدر حُذف فاعله ومفعوله ، والتقدير : بغُروره إياهما . وقوله : " فدلاَّهما " يحتمل أن يكون من التَدْلية من معنى دلا دَلْوَه في البئر والمعنى أطمعهما . قال أبو جندب الهذلي :
أَحُصُّ فلا أُجير ومَنْ أُجِرْه *** فليس كمَنْ تَدَلَّى بالغرورِ
وأن تكون من الدالِّ والدالَّة وهي الجُرْأة أي : فجرَّأهما قال :
أظن الحِلْمَ دَلَّ عليَّ قومي *** وقد يُسْتَجْهَلُ الرجلُ الحليم
وعلى الثاني يكون الأصل دَلَّلهما ، فاستثقل توالي ثلاثة أمثال فأبدل الثالثَ حرفَ لين ، كقولهم : تظنَّيْتُ في تظنَّنْت وقَصَّيْت أظفاري في قَصَصْت وقال :
تَقَضِّيَ البازيْ إذا البازي كسرْ ***
والذَّوْق : وجود الطعم بالفم ويعبر به عن الأكل . وقيل : الذوق مَسُّ الشيء باللسان أو بالفم يقال فيه : ذاق يذوق ذَوْقاً مثل : صام يصوم صوماً ، ونام ينام نوماً .
قوله : { وَطَفِقَا } طَفِقَ من أفعالِ الشُّروع كأخذ وجعل وأنشأ وعَلِق وهَبَّ وانبرى ، فهذه تدلُّ على التلبُّس بأول الفعل ، وحكمُها حكمُ أفعالِ المقاربة من كونِ خبرها لا يكون إلا مضارعاً ، ولا يجوزُ أن يقترنَ بأَنْ البتة لمنافاتها لها لأنها للشروع وهو حالٌ و " أَنْ " للاستقبال ، وقد يقع الخبر جملةً اسمية كقوله :
وقد جَعَلَتْ قَلوصُ بني سهيلٍ *** من الأَكْوارِ مَرْتَعُها قريبُ
وشرطية كإذا كقول عمر : " فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يَخْرج أَرْسَلَ رسولاً " ويقال : طَفِقَ بفتح الفاء وكسرها ، وطَبِق بالباء الموحدة أيضاً . والألف اسمها و " يخصفان " خبرها .
والخَصْف الخَرْز في النِّعال ، وهو وَضْعُ طريقة على أخرى وخَرْزُهما ، والمِخْصَف : ما يُخْصَفُ به وهو الإِشْفى قال :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . أَنْفِها كالمِخْصَف
والخَصَفَةُ أيضاً الجُلَّة للتمر ، والخَصَفُ : الثياب الغليظة ، وخَصَفْتُ الخَصْفة نَسَجْتُها ، والأَخْصَف والخصيف طعام يبرق ، وأصله أن يُوضع لبنٌ ونحوه في الخَصْفة فيتلوَّن بلونها ، وقال العباس يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :
. . . . . . طِبْتَ في الظلال وفي *** مستودَعٍ حيث يُخْصَفُ الورقُ
يشير إلى الجنة أي حيث يخرز ويطابق بعضها فوق بعض .
قوله : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا } يجوز أن تكون هذه الجملةُ التقريرية مفسرةً للنداء ولا محلَّ لها ، ويُحتمل أن يكون ثَمَّ قولٌ محذوف وهي معمولةٌ له أي : فقال : ألم أنْهَكما ، وذلك القولُ مفسِّر للنداء أيضاً . وقال الشيخ : " الأَوْلى أن يعود الضمير في " عليهما " على عورتيهما كأنه قيل : يَخْصِفان على سَوْءاتيهما ، وعاد بضمير الاثنين لأن الجمعَ يُراد به اثنان ، ولا يجوز أن يعود الضمير على آدم وحواء لأنه تقرَّر في علم العربية أنه لا يتعدَّى فعل الظاهر والمضمر المتصل إلى الضميرِ المتصلِ المنصوب لفظاً أو محلاً في غير باب ظن وفقد وعدم ووجد ، لا يجوز : زيد ضربه ولا ضربه زيد ، ولا زيد مرَّ به ولا مرَّ به زيد ، فلو جَعَلْنا الضميرَ في " عليهما " عائداً على آدم وحواء لَلَزِمَ من ذلك تعدِّي " يَخْصِفُ " إلى الضمير المنصوب محلاً وقد رفع الضمير المتصل وهو الألف في " يَخْصِفان " ، فإنْ أُخِذَ ذلك على حَذْف مضاف مرادٍ جاز ذلك وتقديره : " يَخْصِفان على بَدَنَيْهما " ، قلت : ومثلُ ذلك فيما ذكر { وَهُزِّى إِلَيْكِ } [ مريم : 25 ] { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] وقول الشاعر :
هَوِّنْ عليك فإن الأمور *** بِكَفِّ الإِله مقاديرُها
دَعْ عنك نَهْباً صِيْح في حَجَراته *** ولكنْ حديثاً ما حديثُ الرواحلِ
و { مِن وَرَقِ } يحتمل أن تكون " مِنْ " لابتداء الغاية وأن تكون للتبعيض . وقرأ أبو السَّمَّال " وطَفِقا " بفتح الفاء وهي لغة كما تقدم .
وقرأ الزهري " يُخْصِفان " مِنْ أخصف وهي تحتمل وجهين أحدهما : أن يكون أَفْعَلَ بمعنى فَعَل . والثاني : أن تكون الهمزةُ للتعدية ، والمفعولُ على هذا محذوفٌ أي : يَخْصِفان أنفسهما أي : يجعلان أنفسَهما خاصِفين . وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب/ " يَخِصِّفان " بفتح الياء وكسر الخاء والصادُ مشددةٌ ، والأصل : يختصفان ، فأُدْغمت التاء في الصاد ثم أُتْبعت الخاءُ للصاد في حركتها ، وسيأتي لهذه القراءة نظيرٌ في يونس ويس نحو
{ يَهِدِّي } [ يونس : 6 ] و { يَخِصِّمُون } [ يس : 49 ] إن شاء الله تعالى . وروى محبوب عن الحسن كذلك إلا أنه فتح الخاء فلم يُتْبِعْها للصاد ، وهي قراءة يعقوب أيضاً وابن بريدة . وقرأ عبد الله " يُخُصِّفان " بضم الياء والخاء وكسر الصاد مشددة وهي مِنْ خصَّف بالتشديد ، إلا أنه أتبع الخاء للياء قبلها في الحركة وهي قراءة عَسِرةُ النطق ، ويدل على أن أصلها مِنْ خَصَّف بالتشديد قراءةُ بعضهم " يُخَصِّفَان " كذلك إلا أنه بفتح الخاء على أصلها .
قوله : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا } هذه الجملةُ في محل نصب بقول مقدر ذلك القولُ حالٌ تقديره : وناداهما قائلاً ذلك . ولم يُصَرِّحْ هنا باسم المنادي للعلم به . و " لكما " متعلق ب " عدو " لِما فيه من معنى الفعل . ويجوزُ أن تكونَ متعلقةً بمحذوف على أنها حال من " عدوّ " لأنها لو تأخّرت لجاز أن تكون وصفاً له .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.