الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَٰنِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ} (17)

قوله تعالى : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ } : جملةٌ معطوفة على جواب القسم أيضاً ، وأخبر أنه بعد أن يقعد على الصراط يأتي من هذه الجهات الأربع ، ونوَّع حرف الجر فجرَّ الأَوَّلَيْن ب " مِنْ " والثانَيْين ب " عن " لنكتة ذكرها الزمخشري . قال رحمه الله : " فإن قلت كيف قيل : مِنْ بين أيديهم ومِنْ خلفهم بحرف الابتداء ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم بحرف المجاوزة ؟ قلت : المفعول فيه عُدِّي إليه الفعلُ نحو تعديتهِ إلى المفعول به ، فكما اختلفَتْ حروفُ التعدية في ذلك اختلفت في هذا وكانت لغةً تُؤْخَذُ ولا تُقاسُ ، وإنما يُفَتَّشُ عن صحة موقعها فقط ، فلمَّا سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه ، وعن شماله وعلى شماله قلنا : معنى " على يمينه " أنه تَمَكَّن من جهة اليمين تمكُّنَ المستعلي من المستعلَى عليه . ومعنى " عن يمينه " أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين غيرَ ملاصقٍ له منحرفاً عنه ، ثم كَثُر حتى استعمل في المتجافي وغيرِه كما ذكرنا في تعالَ . ونحوُه من المفعول به قولهم : " رميت على القوس وعن القوس ومن القوس " ، لأنَّ السهم يُبْعِدُ عنها ويَسْتعليها إذا وُضع على كَبِدِها للرمي ، ويبتدئ الرميُ منها فلذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ، ومِنْ بين يديه ، ومن خلفه ، لأنَّ الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول : جئت من الليل تريد بعض الليل " . قلت : وهذا كلامُ مَنْ رسخت قدمُه في فهم كلام العرب . وقال الشيخ : " وهو كلامٌ لا بأسَ به " فلم يوفِّه حقَّه .

ثم قال : " وأقول : وإنما خَصَّ بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإِتيان لأنهما أغلبُ ما يجيء العدوُّ منهما فينال فرصته ، وقدَّم بين الأيدي على الخلف لأنها الجهة التي تدلُّ على إقدام العدو وبسالته في مواجهة قِرْنِه غيرَ خائفٍ منه ، والخلف جهةُ غَدْرٍ ومخاتلة وجهالة القِرْن بمَنْ يغتاله ويتطلب غِرَّته وغَفْلَتَه ، وخَصَّ الأيمان والشمائل بالحرف الذي يدلُّ على المجاوزة لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدو ، وإنما يجاوز إتيانَه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك ، وقُدِّمت الأيمان على الشمائل لأنها هي الجهةُ القويةُ في ملاقاة العدو ، وبالأَيْمان البطشُ والدفعُ ، فالقِرْنُ الذي يأتي مِنْ جهتها أبسلُ وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع ، والشمائل ليست في القوة والدفع كالأَيْمان .

والأَيْمان والشمائل جَمْعا يمين وشمال ، وهما الجارحتان وتُجْمَعان في القلة على أَفْعُل ، قال :

يأتي لها من أَيْمُنٍ وأَشْمُلِ ***

والشمائل يُعَبَّر بها عن الأخلاق والشيم تقول : له شمائلُ حسنة ويُعَبَّر عن الحسنات باليمين ، وعن السيئات بالشمال ، لأنهما منشأ الفعلين : الحسن والسيِّئ .

ويقولون : اجعلني في يمينك لا في شِمالك قال :

أبُثْنى أفي يُمْنَى يديكِ جَعَلْتِني *** فَأَفْرحَ أم صَيَّرْتني في شِمالكِ

يَكْنون بذلك عن عِظَم المنزلة عند الشخص وخِسَّتها وقال :

رأيت بني العَلاَّتِ لمَّا تضافروا *** يَحُوزون سَهْمي بينهمْ في الشَّمائل

والشمائل : جمع شَمَال بفتح الشين وهي الريح . قال امرؤ القيس :

وهَبَّتْ له ريحٌ بمختلف الصُّوى *** صَباً وشَمالٌ في منازِلِ قُفَّالِ

والألف في الشمال زائدةٌ ، لذا يُزاد فيها الهمزةُ أيضاً بعد الميم فيقولون شَمْأَل ، وقبلها فيقولون شَأْمَل ، يدلُّ على ذلك كلِّه سقوطُه في التصريف قالوا : " شَمَلَت الريح " إذا هبَّت شَمالاً .

قوله : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ } الوِجْدان هنا يحتمل أن يكون بمعنى اللقاء أو بمعنى العلم أي : لا تُلْفِي أكثرَهم شاكرين ، أو لا تعلم أكثرهم شاكرين ، فشاكرين حالٌ على الأول ، مفعول ثان على الثاني . وهذه الجملة تحتمل وجهين أحدهما : أن تكون استئنافية أخبر اللعين بذلك لتظنِّيه أو لأنه علمه بطريق . ويحتمل أن تكون داخلةً في حَيِّز ما قبلها في جواب القسم ، فتكونَ معطوفةً على قوله " لأقعدَنَّ " ، أَقْسَمَ على جملتين مُثْبَتَتَيْن وأخرى منفية .