قوله تعالى : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ } : جملةٌ معطوفة على جواب القسم أيضاً ، وأخبر أنه بعد أن يقعد على الصراط يأتي من هذه الجهات الأربع ، ونوَّع حرف الجر فجرَّ الأَوَّلَيْن ب " مِنْ " والثانَيْين ب " عن " لنكتة ذكرها الزمخشري . قال رحمه الله : " فإن قلت كيف قيل : مِنْ بين أيديهم ومِنْ خلفهم بحرف الابتداء ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم بحرف المجاوزة ؟ قلت : المفعول فيه عُدِّي إليه الفعلُ نحو تعديتهِ إلى المفعول به ، فكما اختلفَتْ حروفُ التعدية في ذلك اختلفت في هذا وكانت لغةً تُؤْخَذُ ولا تُقاسُ ، وإنما يُفَتَّشُ عن صحة موقعها فقط ، فلمَّا سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه ، وعن شماله وعلى شماله قلنا : معنى " على يمينه " أنه تَمَكَّن من جهة اليمين تمكُّنَ المستعلي من المستعلَى عليه . ومعنى " عن يمينه " أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين غيرَ ملاصقٍ له منحرفاً عنه ، ثم كَثُر حتى استعمل في المتجافي وغيرِه كما ذكرنا في تعالَ . ونحوُه من المفعول به قولهم : " رميت على القوس وعن القوس ومن القوس " ، لأنَّ السهم يُبْعِدُ عنها ويَسْتعليها إذا وُضع على كَبِدِها للرمي ، ويبتدئ الرميُ منها فلذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ، ومِنْ بين يديه ، ومن خلفه ، لأنَّ الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول : جئت من الليل تريد بعض الليل " . قلت : وهذا كلامُ مَنْ رسخت قدمُه في فهم كلام العرب . وقال الشيخ : " وهو كلامٌ لا بأسَ به " فلم يوفِّه حقَّه .
ثم قال : " وأقول : وإنما خَصَّ بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإِتيان لأنهما أغلبُ ما يجيء العدوُّ منهما فينال فرصته ، وقدَّم بين الأيدي على الخلف لأنها الجهة التي تدلُّ على إقدام العدو وبسالته في مواجهة قِرْنِه غيرَ خائفٍ منه ، والخلف جهةُ غَدْرٍ ومخاتلة وجهالة القِرْن بمَنْ يغتاله ويتطلب غِرَّته وغَفْلَتَه ، وخَصَّ الأيمان والشمائل بالحرف الذي يدلُّ على المجاوزة لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدو ، وإنما يجاوز إتيانَه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك ، وقُدِّمت الأيمان على الشمائل لأنها هي الجهةُ القويةُ في ملاقاة العدو ، وبالأَيْمان البطشُ والدفعُ ، فالقِرْنُ الذي يأتي مِنْ جهتها أبسلُ وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع ، والشمائل ليست في القوة والدفع كالأَيْمان .
والأَيْمان والشمائل جَمْعا يمين وشمال ، وهما الجارحتان وتُجْمَعان في القلة على أَفْعُل ، قال :
يأتي لها من أَيْمُنٍ وأَشْمُلِ ***
والشمائل يُعَبَّر بها عن الأخلاق والشيم تقول : له شمائلُ حسنة ويُعَبَّر عن الحسنات باليمين ، وعن السيئات بالشمال ، لأنهما منشأ الفعلين : الحسن والسيِّئ .
ويقولون : اجعلني في يمينك لا في شِمالك قال :
أبُثْنى أفي يُمْنَى يديكِ جَعَلْتِني *** فَأَفْرحَ أم صَيَّرْتني في شِمالكِ
يَكْنون بذلك عن عِظَم المنزلة عند الشخص وخِسَّتها وقال :
رأيت بني العَلاَّتِ لمَّا تضافروا *** يَحُوزون سَهْمي بينهمْ في الشَّمائل
والشمائل : جمع شَمَال بفتح الشين وهي الريح . قال امرؤ القيس :
وهَبَّتْ له ريحٌ بمختلف الصُّوى *** صَباً وشَمالٌ في منازِلِ قُفَّالِ
والألف في الشمال زائدةٌ ، لذا يُزاد فيها الهمزةُ أيضاً بعد الميم فيقولون شَمْأَل ، وقبلها فيقولون شَأْمَل ، يدلُّ على ذلك كلِّه سقوطُه في التصريف قالوا : " شَمَلَت الريح " إذا هبَّت شَمالاً .
قوله : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ } الوِجْدان هنا يحتمل أن يكون بمعنى اللقاء أو بمعنى العلم أي : لا تُلْفِي أكثرَهم شاكرين ، أو لا تعلم أكثرهم شاكرين ، فشاكرين حالٌ على الأول ، مفعول ثان على الثاني . وهذه الجملة تحتمل وجهين أحدهما : أن تكون استئنافية أخبر اللعين بذلك لتظنِّيه أو لأنه علمه بطريق . ويحتمل أن تكون داخلةً في حَيِّز ما قبلها في جواب القسم ، فتكونَ معطوفةً على قوله " لأقعدَنَّ " ، أَقْسَمَ على جملتين مُثْبَتَتَيْن وأخرى منفية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.