الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} (16)

قوله تعالى : { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } : في هذه الباء وجهان أحدهما : أن تكون قسميةً وهو الظاهر . والثاني : أن تكون سببيَّة ، وبه بدأ الزمخشري قال : " فبما أغويتني : فبسبب إغوائك إياي لأقعدنَّ لهم " ثم قال : " والمعنى : فبسبب وقوعي في الغَيِّ لاجتهدنّ في إغوائهم حتى يَفْسُدوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم . فإن قلت : بم تَعَلَّقَت الباء فإن تعلُّقها ب " لأقعدن " يصدُّ عنه لام القسم لا تقول : واللهِ بزيدٍ لأمرَّنَّ ؟ قلت : تَعَلَّقَتْ بفعل القسم المحذوف تقديره : فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنَّ أي : فبسبب إغوائك أُقْسم . ويجوز أن تكون الباء للقسم أي : فأقسم بإغوائك لأقعدنَّ " . قلت : وهذان الوجهان سبق إليهما أبو بكر بن الأنباري ، وذكر عبارةً قريبة من هذه العبارة .

وقال الشيخ : " وما ذكره من أن اللام تصدُّ عن تعلُّق الباء ب " لأقعدَنَّ " ليس حكماً مُجْمَعاً عليه بل في ذلك خلافٌ " . قلت : أمَّا الخلافُ فنعم . لكنه خلافٌ ضعيف لا يُقَيَّد به أبو القاسم ، والشيخُ نفسه قد قال عند قوله تعالى { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ } [ الأعراف : 18 ] في قراءة مَنْ كسر اللام في " لمن " ، إنَّ ذلك لا يُجيزه الجمهور وسيأتي لك مبيناً إن شاء الله .

و " ما " تحتمل ثلاثة أوجه أظهرها : أنها مصدرية أي : فبإغوائك إياي . والثاني : أنها استفهامية يعني أنه استفهم عن السبب الذي أغواه به فقال : فبأي شيء من الأشياء أغويتني ؟ ثم استأنف جملةَ أقْسَمَ فيها بقوله " لأقعدنَّ " . وهذا ضعيفٌ عند بعضِهم أو ضرورةٌ عند آخرين من حيث إنَّ " ما " الاستفهامية إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفها ، ولا تَثْبت إلا في شذوذ كقولهم : عمَّا تسأل ؟ أو ضرورةً كقوله :

على ما قام يَشْتِمني لئيمٌ *** كخنزيرٍ تمرَّغَ في رمادِ

والثالث : أنها شرطية ، وهو قولُ ابن الأنباري ، ولا بد من إيراد نصِّه قال : رحمه الله " ويجوز أن تكونَ " ما " بتأويل الشرط ، والباءُ من صلة الإِغواء ، والفاءُ المضمرة جواب الشّرط ، والتقدير : فبأي شيء أغويتني فلأقعدنَّ لهم صراطك " فتُضْمر الفاءَ [ في ] جواب الشرط كما تضمرها في قولك " إلى ما أومأتَ إني قابلُه ، وبما أمرت إني سامعٌ مطيع " . وهذا الذي قاله ضعيف جداً ، فإنه على تقدير صحة معناه يمتنع من حيث الصناعة ، فإن فاء الجزاء لا تُحذف إلا في ضرورة شعر كقوله :

مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكرُها *** والشرُّ بالشر عند الله مِثْلان

أي : فالله . وكان المبرد/ لا يُجَوِّز ذلك ضرورة أيضاً ، وينشد البيت المذكور :مَنْ يفعل الخير فالرحمن يشكره *** . . . . . . . . . . . . . .

فعلى رأي أبي بكر يكون قوله " لأقعدنَّ " جوابَ قسم محذوف ، وذلك القسم المقدر وجوابه جواب الشرط ، فيقدِّرُ دخول الفاء على نفس جملة القسم مع جوابها تقديره : فبما أغويتني فواللهِ لأقعدنَّ .

هذا يُتَمِّمُ مذهبه .

وقوله : " صراطَك " في نصبه ثلاثة أوجه أحدها : أنه منصوب على إسقاط الخافض . قال الزجاج : " ولا اختلاف بين النحويين أنَّ " على " محذوفة كقولك : " ضُرِب زيدٌ الظهرَ والبطنَ " أي : على الظهر والبطن " . إلا أن هذا الذي قاله الزجاج وإن كان ظاهرهُ الإِجماع ضعيفٌ من حيث إن حرف الجر لا يَطَّرِدُ حذفه ، بل هو مخصوص بالضرورة أو بشذوذ كقوله :

تمُرُّون الديارَ فلم تعوجوا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[ وقوله ] :

. . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . لولا الأسى لقضاني

[ وقوله ] :

فَبِتُّ كأنَّ العائداتِ فَرَشْنني *** . . . . . . . . . . . . . . . .

والثاني : أنه منصوب على الظرف والتقدير : لأقعدنَّ لهم في صراطك . وهذا أيضاً ضعيف لأن " صراطك " ظرفُ مكانٍ مختصٌّ ، والظرف المكاني المختص لا يصل إليه الفعل بنفسه بل ب " في " ، تقول : صليت في المسجد ونمت في السوق . ولا تقول : صَلَّيْتَ المسجد ، إلا فيما استثني في كتب النحو ، وإنْ ورد غير ذلك كان شاذاً كقولهم " رَجَع أدراجَه " و " ذهبت " مع " الشام " خاصة . أو ضرورة كقوله :

جزى الله بالخيراتِ ما فعلا بكم *** رفيقَيْنِ قالا خَيْمَتَيْ أمِّ معبدِ

أي : قالا في خيمتي . وجعلوا نظيرَ الآية في نصب المكان المختص قولَ الآخر :

لَدْنٌ بهزِّ الكفِّ يَعْسِل مَتْنَه *** كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ

وهذا البيت أنشده النحاة على أنه ضرورة . وقد شذَّ ابن الطراوة عن مذهب النحاة فجعل " الصراط " و " الطريق " في هذين الموضعين مكانين مُبْهمين . وهذا قولٌ مردودٌ لأن المختصَّ من الأمكنة ما له أقطارٌ تحويه وحدودٌ تحصره ، والصراط والطريق من هذا القبيل . والثالث : أنه منصوبٌ على المفعول به لأنَّ الفعلَ قبله وإن كان قاصراً فقد ضُمِّن معن