الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡـٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا} (6)

قوله : { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ } : في الناشئةِ أوجهٌ ، أحدها : أنها صفةٌ لمحذوفٍ ، أي : النفسَ الناشئةَ بالليلِ التي تَنْشَأُ مِنْ مَضْجَعِها ، للعبادة ، أي : تَنْهَضُ وترتفعُ . مِنْ نَشَأَتِ السحابةُ : إذا ارتفعَتْ . ونَشَأ مِنْ مكانِه ونَشَز : إذا نَهَضَ قال :

نَشَأْنا إلى خُوْصٍ بَرَى نَيَّها السُّرى *** وأَشْرَف منها مُشْرِفاتِ القَماحِدِ

والثاني : أنَّها مصدرٌ بمعنى قيامِ الليل ، على أنها مصدرٌ مِنْ نَشَأَ ، إذا قام ونَهَضَ ، فتكونُ كالعافية ، قالهما الزمخشري .

الثالث : أنها بلغةِ الحبشةِ ، نَشَأَ الرجلُ : أي قامَ من الليل . قال الشيخ : " فعلى هذا هي جمعُ ناشِىء ، أي : قائِم " ، أي : قائِم " . قلت : يعني أنها صفةٌ . لشيءٍ يُفْهِمُ الجَمْعُ ، أي : طائفةً أو فِرْقةً ناشئِةً ، وإلاَّ ففاعلٌ لا يُجْمَعُ على فاعِلة .

الرابع : أنَّ " ناشئة الليل " ساعاتُه ؛ لأنها تَنْشَأ شيئاً بعد شيء . وقَيَّدها ابنُ عباس والحسنُ بما كان بعد العِشاء ، وما كان قبلَها فليسَ بناشئةٍ . وخَصَّصَتْها عائشةُ رضي الله عنها بمعنىً آخرَ : وهو أَنْ يكونَ بعد النومِ ، فلو لم يتقدَّمْها نومٌ لم تكُنْ ناشئةً .

قوله : { وَطْأً } قرأ أبو عمروٍ وابنُ عامر بكسرِ الواو وفتح الطاءِ بعدَها ألفٌ . والباقون بفتح الواو وسكون الطاء . وقرأ قتادةُ وشبلٌ عن أهل مكة " وِطْئاً " . وظاهرُ كلامِ أبي البقاءِ يُؤْذِنُ أنه قُرِىء بفتحِ الواو مع المدِّ فإنه قال : " وِطاء بكسرِ الواو بمعنى : مُواطَأَة ، وبفتحها اسمٌ للمصدر ، و " وَطْئاً " على فَعْل ، وهو مصدرٌ وَطِىءَ " فالوِطاءُ مصدرُ واطَأَ كقِتال مصدرِ قاتَل . والمعنى : أنها أشدُّ مواطَأةً ، أي : يُواطِىءُ قلبُها لسانَها ، إنْ أَرَدْتَ النفسَ ، أو يُواطىء فيها قَلْبُ القائمِ لسانَه ، إنْ أَرَدْتَ القيامَ أو العبادةَ أو الساعاتِ ، أو أشدُّ موافقةً لِما يُراد من الخُشوعِ والإِخلاصِ ، والوَطْءُ بالفتح أو الكسرِ على معنى : أشدُّ ثَباتَ قَدَمٍ وأَبْعدُ مِن الزّلَلِ ، أو أثقلُ وأغلظُ مِنْ صلاةِ النهارِ على المصلِّي ، من قولِه عليه السلام : " اللهم اشْدُدْ وَطْأَتَكَ على مُضَرَ " وعلى كلِّ تقدير فانتصابُه على التمييز .

قوله : { وَأَقْوَمُ } حكى الزمخشري : " أنَّ أَنَساً قرأ " وأَصْوَبُ قِيلاً " فقيل له : يا أبا حمزةَ إنما هي : وأقومُ ! ! " فقال : " إِنَّ أَقْوَمَ وأَصْوَبَ وأَهْيَأ واحدٌ " وأنَّ أبا سرار الغَنَوِيَّ قرأ " فحاسُوا خلالَ الديارِ " بالحاءِ المهمةِ فقيل له : هي بالجيم . فقال : حاسُوا وجاسُوا واحدٌ " . قلت : له غَرَضٌ في هاتَيْن الحكايَتَيْن ، وهو جوازُ قراءةِ القرآنِ بالمعنى ، وليس في هذا دليلٌ ؛ لأنه تفسيرُ معنىً . وأيضاً فما بَيْنَ أيدينا قرآنٌ متواترٌ ، وهذه الحكايةُ آحادٌ . وقد تقدَّم أنَّ أبا الدرداءِ كان يُقرِىءُ رجالاً

{ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ } [ الدخان : 44 ] فجعل الرجلُ يقول : اليتيم . فلمَّا تَبَرَّم به قال : طعامُ الفاجرِ يا هذا . فاستَدَلَّ به على ذلك مَنْ يَرَى جوازَه . وليس فيه دليلٌ ؛ لأنَّ مقصودَ/ أبي الدرداءِ بيانُ المعنى ، فجاء بلفظٍ مبينٍ .