الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَكَيۡفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرۡتُمۡ يَوۡمٗا يَجۡعَلُ ٱلۡوِلۡدَٰنَ شِيبًا} (17)

قوله : { يَوْماً } : منصوبٌ إمَّا ب " تَتَّقُون " على سبيلِ المفعولِ به تجوَّزاً . وقال الزمخشري : " يوماً " مفعولٌ به ، أي : فكيف تَقُوْنَ أنفسَكم يومَ القيامةِ وهَوْلَه إنْ بَقِيْتُمْ على الكفرِ ؟ " . وناقشه الشيخُ فقال : " وتَتَّقون مضارعُ اتَّقى ، واتَّقى ليس بمعنى وَقَى حتى يُفَسِّرَه به ، واتقَّى يتعدَّى إلى واحدٍ ، ووَقَى يتعدَّى إلى اثنين . قال تعالى :

{ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [ الدخان : 56 ] . ولذلك قَدَّره الزمخشريُّ ب تَقُون أنفسَكم ، لكنه ليس " تَتَّقون " بمعنى يَقُوْن ، فلا يُعَدَّى تَعْديَتَه " انتهى .

ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الظرفِ ، أي : فكيف لكم بالتقوى يومَ القيامة ، إنْ كَفَرْتُمْ في الدنيا ؟ قاله الزمخشريُّ . ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ مفعولاً به ب " كَفَرْتُمْ " إذا جُعِل " كَفَرْتُمْ " بمعنى جَحَدْتُم ، أي فكيف تَتَّقون اللَّهَ وتَخْشَوْنه إنْ جَحَدْتُمْ يومَ القيامةِ ؟ ولا يجوزُ أن ينتصِبَ ظرفاً ، لأنهم لا يكفرون ذلك اليومَ ؛ بل يُؤْمِنون لا محالةَ . ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على إسقاطِ الجارِّ ، أي : إن كفرتُمْ بيومِ القيامةِ . والعامَّةُ على تنوين " يوماً‌ " وجَعْلِ الجملةِ بعده نعتاً له . والعائدُ محذوفٌ ، أي : يَجْعل الوِلْدانَ فيه . قاله أبو البقاء ولم يتعرَّضْ للفاعلِ في " يَجْعَلُ " ، وهو على هذا ضميرُ الباري تعالى ، أي : يوماً يجعلُ اللَّهُ فيه . وأحسنُ مِنْ هذا أَنْ يُجْعَلَ العائدُ مضمراً في " يَجْعَلُ " هو فاعلَه ، وتكون نسبةُ الجَعْلِ إلى اليومِ من بابِ المبالغةِ ، أي : نفسُ اليوم يَجْعَلُ الوِلْدانَ شِيْبا .

وقرأ زيدُ بنُ عليّ " يومَ يَجْعَلُ " بإضافةِ الظرفِ للجملة . والفاعلُ على هذا هو ضميرُ الباري تعالى . والجَعْلُ هنا بمعنى التصيير ف " شِيْباً " مفعولٌ ثانٍ ، وهو جمعُ أَشْيَب . وأصلُ الشينِ الضمُّ فكُسِرَتْ لتصِحَّ الياءُ نحو : أحمر وحُمْر . قال الشاعر :

مِنَّا الذي هُوَ ما إنْ طُرَّ شارِبُه *** والعانِسُون ومنا المُرْدُ والشِّيْبُ

وقال آخر :

4375 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** لَعِبْنَ بنا شِيْباً وشَيَّبْنَنا مُرْدا