البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

الشهوة : ما تدعو النفس إليه ، والفعل منه : اشتهى ، ويجمع بالألف والتاء فيقال : شهوات ، ووجدت أنا في شعر العرب جمعها على : شُهى ، نحو : نزوة ونزى ، و : كوة وكوى ، على قول من زعم أن : كوى ، جمع كوة بفتح الكاف ، وهذا مع : قرية وقرى ، ذكره النحويون مما جاء على وزن فعلة معتل اللام ، وجمع على فعل ، واستدركت أنا : شهى ، وقالت امرأة من بني نضر بن معاوية :

فلولا الشَّهى والله كنت جديرة *** بأن أترك اللذات في كل مشهد

القنطار : فنعال نونه زائدة ، قاله ابن دريد ، فيكون وزنه : فنعالاً من : قطر يقطر وقيل : أصل ووزن فعلال ، وفيه خلاف : أهو واقع على عدد مخصوص ؟ أم هو وزن لا يحد ولا يحصر ؟ والقائلون بأنه عدد مخصوص اختلفوا في ذلك العدد ، ويأتي ذلك في التفسير ، إن شاء الله تعالى .

ويقال منه : قنطر الرجل إذا كان عنده قناطير ، أو قنطار من المال وقال الزجاج : هو مأخوذ من : قنطرت الشيء ، عقدته وأحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها وقيل : قنطرته : عبيته شيئاً على شيء ، ومنه سمي القنطرة .

فشبه المال الكثير الذي يعبى بعضه على بعض بالقنطرة .

الذهب : معروف ، وهو مؤنث يجمع على ذهاب وذهوب .

وقيل : الذهب جمع ذهبية .

والفضة : معروفة ، وجمعها فضض ، فالذهب مشتق من الذهاب ، والفضة من انفض الشيء : تفرق ، ومنه : فضضت القوم .

الخيل : جمع لا واحد له من لفظه ، بل واحده : فرس .

وقيل : واحده خايل ، كراكب وركب ، قاله أبو عبيدة .

سميت بذلك لاختيالها في مشيها .

وقيل : اشتقاقه من التخيل ، لأنه يتخيل في صورة من هو أعظم منه .

وقيل : الاختيال مأخوذ من التخيل .

النعم : الإبل فقط ، قال الفراء : وهو مذكر ولا يؤنث ، يقولون هذا نعم وارد .

وقال الهروي : النعم ، يذكر ويؤنث ، وإذا جمع انطلق على الإبل والبقر والغنم .

وقال ابن قتيبة : الأنعام : الإبل والبقر والغنم ، واحدها نعم ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، وسميت بذلك لنعومة مسها وهو لينها ، ومنه : الناعم ، والنعامة ، والنعامى : الجنوب ، سميت بذلك للين هبوبها .

المآب : مفعل من آب يؤوب إياباً .

أي : رجع ، يكون للمصدر والمكان والزمان .

زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ قرأ الجمهور زين مبنياً للمفعول والفاعل محذوف فقيل هو الله تعالى قاله عمر لأنه قال حين نزلت الآن يا رب حين زينتها فنزلت قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ الآية ومعنى التزيين خلقها وإنشاء الجبلة على الميل إليه وهذا كقوله إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ فزينها تعالى للابتلاء ويدل عليه قراءة زين للناس حب مبنياً للفاعل وهو الضمير العائد على الله في قوله وَاللَّهُ يُؤَيّدُ

وقيل المزين الشيطان وهو ظاهر قول الحسن قال من زينها ما أحد أشد ذماً لها من خالقها ويصح إسناد التزيين إلى الله تعال بالإيجاد والتهيئة للانتفاع ونسبته إلى الشيطان بالوسوسة وتحصيلها من غير وجهها وأشارت الآية إلى توبيخ معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم ) من اليهود وغيرهم المفتونين بالدنيا وأضاف المصدر إلى المفعول وهو الكثير في القرآن وعبر عن المشتهيات بالشهوات مبالغة إذ جعلها نفس الأعيان وتنبيهاً على خستها لأن الشهوة مسترذلة عند العقلاء يذم متبعها ويشهد له بالانتظام في البهائم وناهيك لها ذماً قوله صلى الله عليه وسلم ) ( حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره ) وأتى بذكر الشهوات أولاً مجموعة على سبيل الإجمال ثم أخذ في تفسيرها شهوة شهوة ليدل على أن المزين ما هو إلاّ شهوة دنيوية لا غير فيكون في ذلك تنفير عنها وذم لطالبها وللذي يختارها على ما عند الله وبدأ في تفصيلها بالأهم فالأهم بدأ بالنساء لأنهنّ حبائل الشيطان وأقرب وأكثر امتزاجاً ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكنّ ) ويقال فيهنّ فتنتان قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام وفي البنين فتنة واحدة وهي جمع المال

وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء وفروع عنهنّ وشقائق النساء في الفتن الولد مبخلة مجبنة وإنما أولادنا بيننا

أكبادنا تمشي على الأرض

لو هبت الريح على بعضهم

لامتنعت عيني من الغمض

وقدّموا على الأموال لأن حب الإنسان ولده أكثر من حبه ماله وحيث ذكر الامتنان والإنعام أو الاستعانة والغلبة قدمت الأموال على الأولاد

وظاهر قوله والبنين الذكران وقيل يشمل الإناث وغلب التذكير

وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ ثلث بالأموال لما في المال من الفتنة ولأنه يحصل به غالب الشهوات ولأن المرء يرتكب الأخطار في تحصيله للولد

واختلف في القنطار أهو عدد مخصوص أم ليس كذلك فقيل ألف ومائتا أوقية وقيل اثنا عشر ألف أوقية وقيل ألف ومائتا دينار وكل هذه رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم ) الأول رواه أبيّ وقال به معاذ وابن عمر وعاصم بن أبي النجود والحسن في رواية والثاني رواه أبو هريرة وقال به والثالث رواه الحسن ورواه العوفي عن ابن عباس

وقيل اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار ذهباً وروي عن ابن عباس وعن الحسن والضحاك

وقال ابن المسيب ثمانون ألفاً وقال مجاهد وروي عن ابن عمر سبعون ألف دينار وقال السدي ثمانية آلاف مثقال وهي مائة رطل وقال الكلبي ألف مثقال ذهب أو فضة وقال قتادة مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألف درهم من الفضة وقال سعيد بن جبير وعكرمة مائة ألف ومائة منّ ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل قد قنطروا وقيل أربعون أوقية من ذهب أو فضة ذكره مكي وقاله ابن سيده في ( المحكم ) وقيل ثمانية آلاف مثقال وهي مائة رطل وقال ابن سيده في ( المحكم ) القنطار بلغة بربر ألف مثقال وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ) في تفسير وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ قال ألف دينار وحكى الزجاج أنه قيل إن القنطار هو رطل ذهباً أو فضة قال ابن عطية وأظنه وهماً وإن القول مائة رطل فسقطت مائة للناقل انتهى وقال أبو حمزة الثمالي القنطار بلسان أفريقية والأندلس ثمانية آلاف مثقال وهذا يكون في الزمان الأول

وأما الآن فهو عندنا مائة رطل والرطل عندنا ستة عشر أوقية وقال أبو بصرة وأبو عبيدة ملء مسك ثور ذهباً قال ابن سيده وكذا هو بالسريانية وقال ابن الكلبي وكذا هو بلغة الروم وقال الربيع بن أنس المال الكثير بعضه على بعض وقال ابن كيسان المال العظيم وقال أبو عبيدة القنطار عند العرب وزن لا يحد وقال الحكم القنطار ما بين السماء والأرض من مال وقال ابن عطية القنطار معيار يوزن به كما أن الرطل معيار

ويقال لما بلغ ذلك الوزن قنطاراً أي يعدل القنطار وأصح الأقوال الأول والقنطار يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية انتهى

والمقنطرة مفعللة أو مفيعلة من القنطار ومعناه المجتمعة كما يقول الألوف المؤلفة والبدرة المبدرة اشتقوا منها وصفاً للتوكيد وقيل المقنطرة المضعفة قاله قتادة والطبري

وقيل المقنطرة تسعة قناطير لأنه جمع جمع قاله النقاش وهذا غير صحيح وقال ابن كيسان لا تكون المقنطرة أقل من تسعة وقال الفراء لا تكون أكثر من تسعة وهذا كله تحكم وقال السدي المقنطرة المضروبة دنانير أو دراهم وقال الربيع والضحاك المنضد الذي بعضه فوق بعض وقيل المخزونة المدخورة وقال يمان المدفونة المكنوزة وقيل الحاضرة العتيدة قاله ابن عطية

وقال مروان بن الحكم ما المال إلاَّ ما حازته العيان مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تبيين للقناطير وهو في موضع الحال منها أي كائناً من الذهب وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ أي الراعية في المروج سامت سرحت وأخذت سومها من الرعي أي غاية جهدها ولم تقصر على حال دون حال فيكون قد عدى الفعل بالتضعيف كما عدى بالهمزة في قولهم أسمتها قاله ابن عباس وابن جبير والحسن وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ومجاهد والربيع وروي عن مجاهد أنها المطهمة الحسان وقال السدي هي الرائقة من سيما الحسن وقال عكرمة سومها الحسن واختاره النحاس

من قولهم رجل وسيم ولا يكون ذلك لاختلاف المادتين إلاَّ إن ادعى القلب وقال أبو عبيدة والكسائي المعلمة بالشيات وروي عن ابن عباس وهو من السومة وهي العلامة قال أبو طالب أمين محب للعباد مسوّم

بخاتم ربّ طاهر للخواتم

قال أبو زيد أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى وقال ابن فارس في ( المجمل ) المسومة هي المرسل عليها ركبانها وقال ابن زيد المعدّة للجهاد وقال ابن المبرد المعروفة في البلدان وقال ابن كيسان البلق وقيل ذوات الأوضاح من الغرة والتحجيل وقيل هي الهماليج

وَالانْعَامِ وَالْحَرْثِ يحتمل أن يكون المعاطيف من قوله والقناطير إلى آخرها غير ما أتى تبييناً معطوفاً على الشهوات أي وحب القناطير وكذا وكذا ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله من النساء فيكون مندرجاً في الشهودات ولم يجمع الحرث لأنه مصدر في الأصل وقيل يراد به المفعول وتقدّم الكلام فيه عند قوله وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ

ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا أشار بذلك وهو مفرد إلى الأشياء السابقة وهي كثيرة لأنه أراد ذلك المذكور أو المتقدم ذكره والمعنى تحقير أمر الدنيا والإشارة إلى فنائها وفناء ما يستمتع به فيها وأدغم أبو عمر وفي الإدغام الكبير ثاء والحرث في ذال ذلك واستضعف لصحة الساكن قبل الثاء

وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ أي المرجع وهو إشارة إلى نعيم الآخرة الذي لا يفني ولا ينقطع

ومن غريب ما استنبط من الأحكام في هذه الآية أن فيها دلالة على إيجاب الصدقة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة فالنساء والبنون فيهم النفقة وباقيها فيها الصدقة قاله الماتريدي

/خ14