العبرة : الاتعاظ يقال : منه اعتبر ، وهو الاستدلال بشيء على شيء يشبهه ، واشتقاقها من العبور ، وهو مجاوزة الشيء إلى الشيء ، ومنه : عبر النهر ، وهو شطه ، والمعبر : السفينة ، والعبارة يعبر بها إلى المخاطب بالمعاني ، وعبرت الرؤيا مخففاً ومثقلاً : نقلت ما عندك من علمها إلى الرائي أو غيره ممن يجهل : وكان الاعتبار انتقالاً عن منزلة الجهل إلى منزلة العلم ، ومنه ، العَبرة ، وهي الدمع ، لأنها تجاوز العين .
{ قد كان لكم آية في فئتين التقتا } قال في ( ري الظمآن ) : أجمع المفسرون على أنها وقعة بدر ، والخطاب للمؤمنين ، قاله ابن مسعود ، والحسن .
فعلى هذا معنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما أمر أن يقول للكفار ما قال ، أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين ، كما قال : من قال يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ونحن لا نأمن على النساء في المذهب ، وكما قال عدي بن حاتم ، حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : فأين ذعار طيء الذين سعروا البلاد ؟ الحديث بكماله .
وقيل : الخطاب للكافرين ، وهو ظاهر ، ولا سيما على قراءة من قرأ : ستغلبون ، بالتاء .
ويخرج ذلك من قول ابن عباس ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفاً لهم ، وإعلاماً بأن الله سينصر دينه .
وقد أراكم في ذلك مثالاً بما جرى لمشركي قريش من الخذلان والقتل والأسر .
وقيل : الخطاب لليهود ، قاله الفراء ، وابن الأنباري وابن جرير ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفاً لهم ، كأنه قيل : لا تغتروا بدربتكم في الحرب ، ومنعة حصونكم ، ومجالبتكم لمشركي قريش ، فإن الله غالبكم ، وقد علمتم ما حل بأهل بدر ، ولم يلحق التاء : كان ، وإن كان قد أسند إلى مؤنث ، وهو الآية ، لأجل أنه تأنيث مجازي .
وازداد حسناً بالفصل ، وإذا كان الفصل محسناً في المؤنث الحقيقي ، فهو أولى في المؤنث المجازي ، ومن كلامهم : حضر القاضي امرأة وقال :
إن امرأ غره منكن واحدة *** بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
وقيل : ذكر لأن معنى الآية البيان ، فهو كما قال :
برهرهة رودة رخصة *** كخرعوبة البانة المنفطر
ذهب إلى القضيب ، وفي قوله { في فئتين } محذوف تقديره في : قصة فئتين ، ومعنى : التقتا ، أي للحرب والقتال .
{ فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } أي : فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله ، وفئة أخرى تقاتل في سبيل الشيطان ، فحذف من الأولى ما أثبتت مقابله في الثانية ، ومن الثانية ما أثبت نظيره في الأولى ، فذكر في الأولى لازم الإيمان ، وهو القتال في سبيل الله .
وذكر في الثانية ملزوم القتال في سبيل الشيطان ، وهو الكفر .
والجمهورُ برفع : فئة ، على القطع ، التقدير : إحداهما ، فيكون : فئة ، على هذا خبر مبتدأ محذوف ، أو التقدير : منهما ، فيكون مبتدأ محذوف الخبر .
وقيل : الرفع على البدل من الضمير في التقتا .
وقرأ مجاهد ، والحسن ، والزهري وحميد : فئةٍ ، بالجر على البدل التفصيلي ، وهو بدل كل من كل ، كما قال :
وكنت كذي رجلينٍ رجل صحيحة *** ورجل رمي فيها الزمان فشُلَّتِ
ومنهم من رفع : كافرة ، ومنهم من خفضها على العطف ، فعلى هذه القراءة تكون : فئة ، الأولى بدل بعض من كل ، فيحتاج إلى تقدير ضمير أي : فئة منهما تقاتل في سبيل الله ، وترتفع أخرى على وجهي القطع إما على الابتداء وإما على الخبر .
وقرأ ابن السميفع ، وابن أبي عبلة : فئة ، بالنصب .
قالوا : على المدح ، وتمام هذا القول : إنه انتصب الأول على المدح ، والثاني على الذم ، كأنه قيل : أمدح فئة تقاتل في سبيل الله ، وأذم أخرى كافرة .
وقال الزمخشري : النصب في : فئة ، على الاختصاص وليس بجيد ، لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً ، وأجاز هو ، وغيره قبله كالزجاج : أن ينتصب على الحال من الضمير في : التقتا ، وذكر : فئة ، على سبيل التوطئة .
وقرأ الجمهور تقاتل بالتاء على تأنيث الفئة وقرأ مجاهد ومقاتل يقاتل بالياء على التذكير قالوا لأن معنى الفئة القوم فرد إليه وجرى على لفظه
يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ قرأ نافع ويعقوب وسهل ترونهم بالتاء على الخطاب وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة وقرأ ابن عباس وطلحة ترونهم بضم التاء على الخطاب وقرأ السلمي بضم الياء على الغيبة فأما من قرأ بالتاء المفتوحة فهو جار على ما قبله من الخطاب فيكون الضمير في لكم للمؤمنين والضمير المرفوع في ترونهم للمؤمنين أيضاً وضمير النصب في ترونهم وضمير الجر في مثليهم عائد على الكافرين والتقدير ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي أنفسهم في العدد فيكون ذلك أبلغ في الآية أنهم رأوا الكفار في مثلي عددهم ومع ذلك نصرهم الله عليهم وأوقع المسلمون بهم وهذه حقيقة التأييد بالنصر كقوله تعالى كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ واستبعد هذا المعنى لأنهم جعلوا هذه الآية وآية الأنفال قصة واحدة وهناك نص على أنه تعالى قلل المشركين في أعين المؤمنين فلا يجامع هذا التكثير في هذه الآية على هذا التأويل ويحتمل على من قرأ بتاء الخطاب أن يكون الخطاب للمؤمنين والضمير المنصوب في ترونهم للكافرين والمجرور للمؤمنين والتقدير ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي المؤمنين واستبعد هذا إذ كان التركيب يقتضي أن يكون ترونهم مثليكم
وأجيب بأنه من الالتفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة كقوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ ويحتمل أن يعود الضمير في مثليهم على الفئة المقاتلة في سبيل الله أي ترون أيها المؤمنون الفئة الكافرة مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله وهم أنفسهم والمعنى ترونهم مثليكم وهذا تقليل إذا كانوا نيفاً على ألف والمسلمون في تقدير ثلث منهم فأرى الله المسلمين الكافرين في ضعفي المسلمين على ما قرر في قوله إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ لتجترئوا عليهم
وإذن كان الضمير في لكم للكافرين وفي ترونهم الخطاب لهم والمنصوب والمجرور للمؤمنين والتقدير ترون أيها الكافرون المؤمنين مثلي أنفسهم
ويحتمل أن يكون الضمير المجرور عائداً على الفئة الكافرة أي مثلي الفئة الكافرة وهم أنفسهم فيكون الله تعالى قد أرى المشركين المؤمنين أضعاف أنفس المؤمنين أو أضعاف الكافرين على قلة المؤمنين ليهابوهم ويجبنوا عنهم وكانت تلك الرؤية مدداً من الله للمؤمنين كما أمدهم تعالى بالملائكة فإن كانت هذه وآية الأنفال في قصة واحدة فالجمع بين هذا التكثير وذاك التقليل باعتبار حالين قللوا أولاً في أعين الكفار حتى يجترئوا على ملاقاة المؤمنين وكثروا حالة الملاقاة حتى قهروا وغلبوا كقوله وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ وأما من قرأ بالياء المفتوحة فالظاهر أن الجملة صفة لقوله وأخرى كافرة وضمير الرفع عائد عليها على المعنى إذ لو عاد على اللفظ لكان تراهم وضمير النصب عائد على فئة تقاتل في سبيل الله وضمير الجرّ في مثليهم عائد على فئة أيضاً وذلك على معنى الفئة إذ لو عاد على اللفظ لكان التركيب تراها مثليها أي ترى الفئةُ الكافرُة الفئةَ المؤمنةَ في مثلي عدد نفسها أي ستمائة ونيف وعشرين أو مثلي أنفس الفئة الكافرة أي ألفين أو قريباً من ألفين
ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الفئة المؤمنة على المعنى والضمير المنصوب والمجرور عائداً على الفئة الكافرة على المعنى أي ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي نفسها
ويحتمل أن يعود الضمير المجرور على الفئة الكافرة أي مثلي الفئة الكافرة والجملة إذ ذاك صفة لقوله وأخرى كافرة ففي الوجه الأول الرابط الواو وفي هذا الوجه الرابط ضمير النصب وإذا كان الضمير في لكم لليهود فالآية كما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ) أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم وتثبيتاً لصورة الوعد السابق من أن الكفار سيغلبون
فمن قرأ بالتاء كان معناه لو حضرتم أو إن كنتم حضرتم وساغ هذا الخطاب لوضوح الأمر في نفسه ووقوع اليقين به لكل إنسان في ذلك العصر ومن قرأ بالياء فضمير الفاعل يحتمل أن يكون للفئة المؤمنة ويحتمل أن يكون للفئة الكافرة على ما تقرر قبل
والرؤية في هاتين القراءتين بصرية تتعدّى لواحد وانتصب مثليهم على الحال قاله أبو علي ومكي والمهدوي ويقوي ذلك ظاهر قوله رأي العين وانتصابه على هذا انتصاب المصدر المؤكد
قال الزمخشري رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات وقيل الرؤية هنا من رؤية القلب فيتعدى لإثنين والثاني هو مثليهم ورد هذا بوجهين أحدهما قوله تعالى رأي العين والثاني أن رؤية القلب علم ومحال أن يعلم الشيء شيئين
وأجيب عن الأول بأن انتصابه انتصاب المصدر التشبيهي أي رأياً مثل رأي العين أي يشبه رأي العين وليس في التحقيق به وعن الثاني بأن معنى الرؤية هنا الاعتقاد فلا يكون ذلك محالاً وإذا كانوا قد أطلقوا العلم في اللغة على الاعتقاد دون اليقين فلأن يطلقوا الرأي عليه أولى قال تعالى فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ أي فإن اعتقدتم إيمانهن ويدل على هذا قراءة من قرأ ترونهم بضم التاء أو الباء قالوا فكأن المعنى أن اعتقاد التضعيف في جمع الكفار أو المؤمنين كان تخميناً وظناً لا يقيناً فلذلك ترك في العبارة ضرب من الشك وذلك أن أُري بضم الهمزة تقولها فيما عندك فيه نظر وإذا كان كذلك فكما استحال أن يحمل الرأي هنا على العلم يستحيل أن يحمل على النظر بالعين لأنه كما لا يقع العلم غير مطابق للمعلوم كذلك لا يقع النظر البصري مخالفاً للمنظور إليه فالظاهر أن ذلك إنما هو على سبيل التخمين والظن وإنه لتمكن ذلك في اعتقادهم
شبه برؤية العين والرأي مصدر رأى يقال رأى رأياً ورؤية ورؤيا ويغلب رؤيا في المنام ورؤية في البصرية يقظة ورأيا في الاعتقاد يقال هذا رأي فلان قال رأى الناس إلا من رأى مثل رأيه
ومعنى مثليهم قدرهم مرتين وزعم الفراء أن معنى يرونهم مثليهم ثلاثة أمثالهم كقول القائل عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها وغلطه الزجاج وقال إنما مثل الشيء مساو له ومثلاه مساويه مرتين
وقال ابن كيسان أوقع الفراء في هذا التأويل أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المسلمين يوم بدر فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلاّ على عدتهم وهذا بعيد وليس المعنى عليه وإنما المعنى أراهم الله على غير عدتهم بجهتين إحداهما أنه رأى الصلاح في ذلك لأن المؤمنين يقوي قلوبهم بذلك والأخرى أنه آية النبي صلى الله عليه وسلم ) انتهى كلام ابن كيسان
وتظاهرت الروايات أن جميع الكفار ببدر كانوا نحو الألف أو تسعمائة والمؤمنين ثلثمائة وأربعة عشر وقيل وثلاثة عشرة لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ورجع طالب بن أبي طالب وأتباع وناس كثير حتى بقي للقتال من بقرب من الثلثين فذكر الله المثلين إذ أمرهما متيقن لم يدفعه أحد وحكي عن ابن عباس أن المشركين كانوا في قتال بدر ستمائة وستة وعشرين وقد ذهب الزجاج وغيره إلى أنهم كانوا نحو الألف
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ) قال ( يوم بدر القوم ألف ) وقال ابن عباس نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً وقال في رواية لقد قللوا في أعيننا حتى لقد قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين قال أراهم مائة فأسرنا منهم رجلاً فقلنا كم كنتم قال ألفاً ونقل أن المشركين لما أسروا قالوا للمسلمين كم كنتم قالوا كنا ثلاثمائة وثلاثة عشرة قالوا ما كنا نراكم إلاّ تضعفون علينا وتكثير كل طائفة في عين الأخرى وتقليلها بالنسبة إلى وقتين جائز فلا يمتنع
وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء أي يقويه بعونه وقيل النصر الحجة ونسبة التأييد إليه يدل على أن المؤيد هم المؤمنون ومفعول من يشاء محذوف أي من يشاء نصره
إِنَّ فِى ذَلِكَ أي النصر وقيل رؤية الجيش مثليهم لَعِبْرَةً أي اتعاظاً ودلالة لاِوْلِى الاْبْصَارِ إن كانت الرؤية بصرية فالمعنى للذين أبصروا الجمعين وإن كانت اعتقادية فالمعنى لذوي العقول السليمة القابلة للاعتبار .