البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

{ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } هذا استمرار في عتبهم آخر أن محمداً رسول كمن مضى من الرسل ، بلّغ عن الله كما بلغوا .

وليس بقاء الرسل شرطاً في بقاء شرائعهم ، بل هم يموتون وتبقى شرائعهم يلتزمها أتباعهم .

فكما مضت الرسل وانقضوا ، فكذلك حكمهم هو في ذلك واحد .

وقرأ الجمهور الرسل بالتعريف على سبيل التفخيم للرسل ، والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله .

وفي مصحف عبد الله رسل بالتنكير ، وبها قرأ : ابن عباس ، وقحطان بن عبد الله .

ووجهها أنه موضع تبشير لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في معنى الحياة ، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك .

وهكذا يتصل في أماكن الاقتضاء به بالشيء ومنه : { وقليل من عبادي الشكور } { وما آمن معه إلا قليل } إلى غير ذلك .

ذكر هذا الفرق بين التعريف والتنكير في نحو هذا المساق أبو الفتح ، وقراءة التعريف أوجه ، إذ تدل على تساوي كل في الخلق والموت ، فهذا الرسول هو مثلهم في ذلك .

{ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } لما صرخ بأن محمداً قد قتل ، تزلزلت أقدام المؤمنين ورعبت قلوبهم وأمعنوا في الفرار ، وكانوا ثلاث فرق : فرقة قالت : ما نصنع بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قاتلوا على ما قاتل عليه ، فقاتلوا حتى قتلوا ، منهم : أنس بن النضر .

وفرقة قالوا : نلقي إليهم بأيدينا فإنهم قومنا وبنو عمنا .

وفرقة أظهرت النفاق وقالوا : ارجعوا إلى دينكم الأوّل ، فلو كان محمد نبياً ما قتل .

وظاهر الانقلاب على العقبين هو الارتداد .

وقيل : هو بالفرار لا الارتداد .

وقد جاء هذا اللفظ في الارتداد والكفر في قوله : { لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } وهذه الهمزة هي همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار .

والفاء للعطف ، وأصلها التقديم .

إذ التقدير : فأإن مات .

لكنهم يعتنون بالاستفهام فيقدّممونه على حرف العطف ، وقد تقدّم لنا مثل هذا وخلاف الزمخشري فيه .

وقال الخطيب كمال الدين الزملكاني : الأوجه أن يقدّر محذوف بعد الهمزة وقيل الفاء ، تكون الفاء عاطفة عليه .

ولو صرّح به لقيل : أتؤمنون به مدة حياته ، فإن مات ارتددتم ، فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد وفاتهم انتهى .

وهذه نزعة زمخشرية .

وقد تقدم الكلام معه في نحو ذلك .

وأن هذه الفاء إنما عطفت الجملة المستفهم عنها على الجملة الخبرية قبلها ، وهمزة الاستفهام داخلة على جملة الشرط وجزائه .

وجزاؤه ، هو انقلبتم ، فلا تغير همزة الاستفهام شيئاً من أحكام الشرط وجزائه .

فإذا كانا مضارعين كانا مجزومين نحو : أإن تأني آتك .

وذهب يونس إلى أن الفعل الثاني يبنى على أداة الاستفهام ، فينوي به التقديم ، ولا بد إذ ذاك من جعل الفعل الأول ماضياً لأن جواب الشرط محذوف ، ولا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط لا يظهر فيه عمل لأداة الشرط ، فيلزم عنده أن تقول : أإن أكرمتني أكرمك .

التقدير فيه : أكرمك أن أكرمتني ، ولا يجوز عنده إنْ تكرمني أكرمك بجزمهما أصلاً ، ولا إن تكرمني أكرمك بجزم الأول ورفع الثاني إلا في ضرورة الشعر .

والكلام على هذه المسألة مستوفى في علم النحو .

فعلى مذهب يونس : تكون همزة الاستفهام دخلت في التقدير على انقلبتم ، وهو ماض معناه الاستقبال ، لأنه مقيد بالموت أو بالقتل .

وجواب الشرط عند يونس محذوف ، وبقول يونس : قال كثير من المفسرين في الآية قالوا : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ، لأن الغرض إنما هو أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد .

ودخلت إنْ هنا على المحقق وليس من مظانها ، لأنه أورد مورد المشكوك فيه للتردد بين الموت والقتل ، وتجويزُ قتله عند أكثر المخاطبين .

ألا ترى إليهم حين سمعوا أنه قتل اضطربوا وفروا ، وانقسموا إلى ثلاث فرق ، ومن ثبت منهم فقاتل حتى قتل ؟ قال بعضهم : يا قوم إنْ كان محمد قد قتل فإنَّ رب محمد لم يقتل ، موتوا على ما مات عليه .

وقال بعضهم : إنْ كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم .

فهذا يدل على تجويز أكثر المخاطبين لأن يقتل .

فأمَّا العلم بأنه لا يقتل من جهة قوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } فهو مختص بالعلماء من المؤمنين وذوي البصيرة منهم ، ومن سمع هذه الآية وعرف سبب نزولها .

{ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً } أي مَنْ رجع إلى الكفر أو ارتدّ فاراً عن القتال وعن ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الجهاد على التفسيرين السابقين .

وهذه الجملة الشرطية هي عامة في أنَّ كل من انقلب على عقبيه فلا يضر إلا نفسه ، ولا يلحق من ذلك شيء لله تعالى ، لأنه تعالى لا يجوز عليه مضار العبد .

ولم تقع ردّة من أحد من المسلمين في ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين .

وقرأ الجمهور على عقبيه بالتثنية .

وقرأ ابن أبي إسحاق على عقبه بالإفراد ، وانتصاب شيئاً على المصدر .

أي : شيئاً من الضرر لا قليلاً ولا كثيراً .

والانقلاب على الأعقاب أو على العقبين أو العقب من باب التمثيل مثّل من يرجع إلى دينه الأول بمن ينقلب على عقبيه .

وتضمنت هذه الجملة الوعيد الشديد .

{ وسيجزي الله الشاكرين } وعد عظيم بالجزاء .

وجاء بالسين التي هي في قول بعضهم : قرينة التفسير في الاستقبال ، أي : لا يتأخر جزاء الله إياهم عنهم .

والشاكرين هم الذين صبروا على دينه ، وصدقوا الله فيما وعدوه ، وثبتوا .

شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام ، ولم يكفروها ، كأنس بن النضر ، وسعد بن الربيع ، والأنصاري الذي كان يتشخط في دمه ، وغيرهم ممن ثبت ذلك اليوم .

والشاكرون لفظ عام يندرج فيه كل شاكر فعلاً وقولاً .

وقد تقدم الكلام على الشكر .

وظاهر هذا الجزاء أنه في الآخرة .

وقيل : في الدنيا بالرزق ، والتمكين في الأرض .

وفسروا الشاكرين هنا بالثابتين على دينهم قاله : علي .

وقال هو والحسن بن أبي الحسن أبو بكر ، أمير الشاكرين يشيران إلى ثباته يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واضطراب الناس إذ ذاك ، وثباته في أمر الردة وما قام به من أعباء الإسلام .

وفسر أيضاً بالطائعين .

/خ152