البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلرِّجَالُ قَوَّـٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ فَٱلصَّـٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ وَٱلَّـٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا} (34)

{ الرّجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } قيل : سبب نزول هذه الآية أنَّ امرأة لطمها زوجها فاستعدت ، فقضى لها بالقصاص ، فنزلت .

فقال صلى الله عليه وسلم : « أردت أمراً وأراد الله غيره » قاله : الحسن ، وقتادة ، وابن جريج ، والسدي وغيرهم .

فذكر التبريزي والزمخشري وابن عطية : أنها حبيبة بنت زيد بن أبي زهير زوج الربيِّع بن عمر ، وأحد النقباء من الأنصار .

وطولوا القصة وفي آخرها : فرفع القصاص بين الرجل والمرأة ، وقال الكلبي : هي حبيبة بنت محمد بن سلمة زوج سعيد بن الربيع .

وقال أبو روق : هي جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى زوج ثابت بن قيس بن شماس .

وقيل : نزل معها : { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } وفي سبب من عين المرأة أن زوجها لطمها بسبب نشوزها .

وقيل : سبب النزول قول أم سلمة المتقدم : لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة قيل : المراد بالرجال هنا من فيهم صدامة وحزم ، لا مطلق من له لحية .

فكم من ذي لحية لا يكون له نفع ولا ضر ولا حرم ، ولذلك يقال : رجل بين الرجولية والرجولة .

ولذلك ادعى بعض المفسرين أنَّ في الكلام حذفا تقديره : الرجال قوامون على النساء إن كانوا رجالاً .

وأنشد :

أكل امرىء تحسبن امرأ *** ونار توقد بالليل ناراً

والذي يظهر أنَّ هذا إخبار عن الجنس لم يتعرض فيه إلى اعتبار أفراده ، كأنه قيل : هذا الجنس قوام على هذا الجنس .

وقال ابن عباس : قوّامون مسلطون على تأديب النساء في الحق .

ويشهد لهذا القول طاعتهن لهم في طاعة الله .

وقوام : صفة مبالغة ، ويقال : قيام وقيم ، وهو الذي يقوم بالأمر ويحفظه .

وفي الحديث : « أنت قيّام السموات والأرض ومن فيهن » والباء في بما للسبب ، وما مصدرية أي : بتفضيل الله .

ومن جعلها بمعنى الذي فقد أبعد ، إذ لا ضمير في الجملة وتقديره محذوفاً لا مسوّغ لحذفه ، فلا يجوز .

والضمير في بعضهم عائد على الرجال والنساء .

وذكر تغليباً للمذكر على المؤنث ، والمراد بالبعض الأول الرجال ، وبالثاني النساء .

والمعنى : أنهم قوّامون عليهن بسبب تفضيل الله الرجال على النساء ، هكذا قرروا هذا المعنى .

قالوا : وعدل عن الضميرين فلم يأت بما فضل الله عليهن لما في ذكر بعض من الإبهام الذي لا يقتضي عموم الضمير ، فرب أنثى فضلت ذكراً .

وفي هذا دليل على أن الولاية تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة ، وذكروا أشياء مما فضل به الرجال على النساء على سبيل التمثيل .

فقال الربيع : الجمعة والجماعة .

وقال الحسن : النفقة عليهن .

وينبو عنه قوله : وبما أنفقوا .

وقيل : التصرف والتجارات .

وقيل : الغزو ، وكمال الدين ، والعقل .

وقيل : العقل والرأي ، وحل الأربع ، وملك النكاح ، والطلاق ، والرجعة ، وكمال العبادات ، وفضيلة الشهادات ، والتعصيب ، وزيادة السهم في الميراث ، والديات ، والصلاحية للنبوة ، والخلافة ، والإمامة ، والخطابة ، والجهاد ، والرمي ، والآذان ، والاعتكاف ، والحمالة ، والقسامة ، وانتساب الأولاد ، واللحى ، وكشف الوجوه ، والعمائم التي هي تيجان العرب ، والولاية ، والتزويج ، والاستدعاء إلى الفراش ، والكتابة في الغالب ، وعدد الزوجات ، والوطء بملك اليمين .

وبما أنفقوا من أموالهم : معناه عليهن ، وما : مصدرية ، أو بمعنى الذي ، والعائد محذوف فيه مسوّغ الحذف .

قيل : المعنى بما أخرجوا بسبب النكاح من مهورهن ، ومن النفقات عليهن المستمرة .

وروى معاذ : أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها » قال القرطبي : فهم الجمهور من قوله : وبما أنفقوا من أموالهم ، أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواماً عليها ، وإذا لم يكن قواماً عليها كان لها فسخ العقد لزوال المعقود الذي شرع لأجله النكاح .

وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة ، وهو مذهب مالك والشافعي .

وقال أبو حنيفة : لا يفسخ لقوله : { وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة }

{ فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله } قال ابن عباس : الصالحات المحسنات لأزواجهنّ ، لأنهن إذا أحسن لأزواجهن فقد صلح حالهن معهم .

وقال ابن المبارك : المعاملات بالخير .

وقيل : اللائي أصلحن الله لأزواجهن قال تعالى : { وأصلحنا له زوجه } وقيل : اللواتي أصلحن أقوالهن وأفعالهن .

وقيل : الصلاة الدين هنا .

وهذه الأقوال متقاربة .

والقانتات : المطيعات لأزواجهن ، أو لله تعالى في حفظ أزواجهن ، وامتثال أمرهم ، أو لله تعالى في كل أحوالهن ، أو قائمات بما عليهن للأزواج ، أو المصليات ، أقوال آخرها للزجاج .

حافظات للغيب : قال عطاء وقتادة : يحفظن ما غاب عن الأزواج ، وما يجب لهن من صيانة أنفسهن لهن ، ولا يتحدثن بما كان بينهم وبينهن .

وقال ابن عطية : الغيب ، كل ما غاب عن علم زوجها مما استتر عنه ، وذلك يعم حال غيبة الزوج ، وحال حضوره .

وقال الزمخشري : الغيب خلاف الشهادة ، أي حافظات لمواجب الغيب إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن ، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الزوج والبيوت والأموال انتهى .

والألف واللام في الغيب تغني عن الضمير ، والاستغناء بها كثير كقوله : { واشتعل الرأس شيباً } أي رأسي .

وقال ذو الرّمة :

لمياء في شفتيها حوّة لعس *** وفي اللثات وفي أنيابها شنب

تريد : وفي لثاتها .

وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرّتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها » ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية .

وقرأ الجمهور : برفع الجلالة ، فالظاهر أن تكون ما مصدرية ، والتقدير : بحفظ الله إياهن .

قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد .

ويحتمل هذا الحفظ وجوهاً أي : يحفظ ، أي : بتوفيقه إياهن لحفظ الغيب ، أو لحفظه إياهن حين أوصى بهن الأزواج في كتابه وأمر رسوله ، فقال : « استوصوا بالنساء خيراً » أو بحفظهن حين وعدهن الثواب العظيم على حفظ الغيب ، وأوعدهن العذاب الشديد على الخيانة .

وجوزوا أن تكون ما بمعنى الذي ، والعائد على ما محذوف ، والتقدير : بما حفظه الله لهن من مهور أزواجهن ، والنفقة عليهن ، قاله الزجاج .

وقال ابن عطية : ويكون المعنى إما حفظ الله ورعايته التي لا يتم أمر دونها ، وإما أوامره ونواهيه للنساء ، وكأنها حفظه ، فمعناه : أن النساء يحفظن بإزاء ذلك وبقدره .

وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة .

وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : بنصب الجلالة فالظاهر أنَّ ما بمعنى الذي ، وفي حفظ ضمير يعود على ما مرفوع أي : بالطاعة والبر الذي حفظ الله في امتثال أمره .

وقيل : التقدير بالأمر الذي حفظ حق الله وأمانته ، وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم .

وقدره ابن جني : بما حفظ دين الله ، أو أمر الله .

وحذف المضاف متعين تقديره : لأن الذات المقدسة لا ينسب إليها أنها يحفظها أحد .

وقيل : ما مصدرية ، وفي حفظ ضمير مرفوع تقديره : بما حفظن الله ، وهو عائد على الصالحات .

قيل : وحذف ذلك الضمير ، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر كما قال : فإن الحوادث أودى بها .

يريد : أو دين بها .

والمعنى : يحفظن الله في أمره حين امتثلنه .

والأحسن في هذا أن لا يقال أنه حذف الضمير ، بل يقال : إنه عاد الضمير عليهن مفرداً ، كأنه لوحظ الجنس ، وكأن الصالحات في معنى من صلح ، وهذا كله توجيه شذوذ أدّى إليه قول من قال في هذه القراءة : إنّ ما مصدرية .

ولا حاجة إلى هذا القول ، بل ينزه القرآن عنه .

وفي قراءة عبد الله ومصحفه : فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله ، فأصلحوا إليهن .

وينبغي حملها على التفسير لأنها مخالفة لسواد الإمام ، وفيها زيادة .

وقد صح عنه بالنقل الذي لا شك فيه أنه قرأ : وأقرأ على رسم السواد ، فلذلك ينبغي أن تحمل هذه القراءة على التفسير .

قال ابن جني : والتكسير أشبه بالمعنى ، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصودة هنا .

ومعنى قوله : فأصلحوا إليهن أي أحسنوا ضمن أصلحوا معنى أحسنوا ، ولذلك عداه بإلى .

روى في الحديث : « يستغفر للمرأة المطيعة لزوجها الطير في الهواء ، والحيتان في البحر ، والملائكة في السماء ، والسباع في البراري » « قالت أم سلمة : قلت : يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور ؟ فقال : نساء الدنيا أفضل من الحور .

قلت : يا رسول الله بم ؟ قال : بصلاتهن ، وصيامهن ، وعبادتهن ، وطاعة أزواجهن .

» { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن } لما ذكر تعالى صالحات الأزواج وأنهن من المطيعات الحافظات للغيب ، ذكر مقابلهن وهن العاصيات للأزواج .

والخوف هنا قيل : معناه اليقين ، ذهب في ذلك إلى أنّ الأوامر التي بعد ذلك إنما يوجبها وقوع النشوز لا توقعه ، واحتج في جواز وقوع الخوف موقع اليقين بقول أبي محجن الثقفي رضي الله عنه :

ولا تدفنني بالفلاة فإنني *** أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

وقيل الخوف علي بابه من بعض الظن .

قال :

أتاني كلام من نصيب بقوله *** وما خفت ياسلام أنك عاتبي

أي : وما ظننت .

وفي الحديث : « أمرت بالسواك حتى خفت لأدردن » وقيل : الخوف على بابه من ضد الأمن ، فالمعنى : يحذرون ويتوقعون ، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادىء ما يتخوف .

والنشوز : أن تتعوج المرأة ويرتفع خلقها وتستعلي على زوجها ، ويقال : نسور بالسين والراء المهملتين ، ويقال : نصور ، ويقال : نشوص .

وامرأة ناشر وناشص .

قال الأعشي :

تجللها شيخ عشاء فأصبحت *** مضاعية تأتي الكواهن ناشصا

قال ابن عباس : نشوزهنّ عصيانهنّ .

وقال عطاء : نشوزها أن لا تتعطر ، وتمنعه من نفسه ، وتتغير عن أشياء كانت تتصنع للزوج بها .

وقال أبو منصور : نشوزها كراهيتها للزوج .

وقيل : امتناعها من المقام معه في بيته ، وإقامتها في مكان لا يريد الإقامة فيه .

وقيل : منعها نفسها من الاستمتاع بها إذا طلبها لذلك .

وهذه الأقوال كلها متقاربة .

ووعظهن : تذكيرهن آمر الله بطاعة الزوج ، وتعريفهن أنّ الله أباح ضربهن عند عصيانهن ، وعقاب الله لهن على العصيان قاله : ابن عباس .

وقال مجاهد : يقول لها : اتقي الله ، وارجعي إلى فراشك .

وقيل : يقول لها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » وقال : « لا تمنعه نفسها ولو كانت على قتب » وقال : « أيما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح » وزاد آخرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق وامرأة بات عليها زوجها ساخطاً وإمام قوم هم له كارهون »

وهجرهن في المضاجع : تركهن لكراهة في المراقد .

والمضجع المكان الذي يضطجع فيه على جنب .

وأصل الاضطجاع الاستلقاء ، يقال : ضجيع ضجوعاً واضطجع استلقى للنوم ، وأضجعته أملته إلى الأرض ، وكل شيء أملته من إناء وغيره فقد أضجعته .

قال ابن عباس وابن جبير : معناه لا تجامعوهن .

وقال الضحاك والسدي : اتركوا كلامهن ، وولوهن ظهوركم في الفراش .

وقال مجاهد : فارقوهن في الفرش ، أي ناموا ناحية في فرش غير فرشهن .

وقال عكرمة والحسن : قولوا لهن في المضاجع هجراً ، أي كلاماً غليظاً .

وقيل : اهجروهن في الكلام ثلاثة أيام فما دونها .

وكنى بالمضاجع عن البيوت ، لأن كل مكان يصلح أن يكون محلاً للاضطجاع .

وقال النخعي ، والشعبي ، وقتادة ، والحسن : من الهجران ، وهو البعد وقيل : اهجروهن بترك الجماع والاجتماع ، وإظهار التجهم ، والإعراض عنهن مدة نهايتها شهراً كما فعل عليه السلام « حين حلف أن لا يدخل على نسائه شهراً » وقيل : اربطوهن بالهجار ، وأكرهوهن على الجماع من قولهم : هجر البعير إذا شده بالهجار ، وهو حبل يشدّ به البعير قاله : الطبري ورجحه .

وقدح في سائر الأقوال .

وقال الزمخشري في قول الطبري : وهذا من تفسير الثقلاء انتهى .

وقيل في للسبب : أي اهجروهن بسبب تخلفهن عن الفرش .

وقرأ عبد الله والنخعي : في المضجع على الإفراد وفيه معنى الجمع ، لأنه اسم جنس .

وضربهن هو أن يكون غير مبرح ولا ناهك ، كما جاء في الحديث .

قال ابن عباس : بالسواك ونحوه .

والضرب غير المبرح هو الذي لا يهشم عظماً ، ولا يتلف عضواً ، ولا يعقب شيناً ، والناهك البالغ ، وليجتنب الوجه .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « علق سوطك حيث يراه أهلك » وعن أسماء بنت الصديق رضي الله عنها : كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير ، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها .

وهذا يخالف قول ابن عباس ، وكذلك ما رواه ابن وهب عن مالك : أن أسماء زوج الزبير كانت تخرج حتى عوتبت في ذلك وعيب عليها وعلى ضرّاتها ، فعقد شعر واحدة بالأخرى ، ثم ضربهما ضرباً شديداً ، وكانت الضرّة أحسن اتقاء ، وكانت أسماء لا تتقي الضرب ، فكان الضرب بها أكثر ، فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال : يا بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح ، ولعله أن يكون زوجك في الجنة .

وظاهر الآية يدل : على أنه يعظ ، ويهجر في المضجع ، ويضرب التي يخاف نشوزها .

ويجمع بينها ، ويبدأ بما شاء ، لأن الواو لا ترتب .

وقال بهذا قوم وقال الجمهور : الوعظ عند خوف النشوز ، والضرب عند ظهوره .

وقال ابن عطية : هذه العظة والهجر والضرب مراتب ، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها .

وقال الزمخشري : أمر بوعظهن أولاً ، ثم بهجرانهن في المضاجع ، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران .

وقال الرازي ما ملخصه : يبدأ بلين القول في الوعظ ، فإن لم يفسد فبخشنه ، ثم يترك مضاجعتها ، ثم بالإعراض عنها كلية ، ثم بالضرب الخفيف كاللطمة واللكزة ونحوها مما يشعر بالاحتقار وإسقاط الحرمة ، ثم بالضرب بالسوط والقضيب اللين ونحوه مما يحصل به الألم والإنكاء ولا يحصل عنه هشم ولا إراقة دم ، فإن لم يفد شيء من ذلك ربطها بالهجار وهو الحبل ، وأكرهها على الوطء ، لأن ذلك حقه .

وأي شيء من هذه رجعت به عن نشوزها على ما رتبناه لم يجز له أن ينتقل إلى غيره لقوله :

{ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً } انتهى .

وقوله : فإن أطعنكم أي : وافقنكم وانقدن إلى ما أوجب الله عليهن من طاعتكم .

يدل على أنهن كن عاصيات بالنشوز ، وأن النشوز منهن كان واقعاً ، فإذن ليس الأمر مرتباً على خوف النشوز .

وآخرها يدل على أنه مرتب على عصيانهن بالنشوز ، فهذا مما حمل على تأول الخوف بمعنى التيقن .

والأحسن عندي أن يكون ثمّ معطوفاً حذف لفهم المعنى واقتضائه له ، وتقديره : واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن .

كما حذف في قوله : { أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت } تقديره فضرب فانفجرت ، لأن الانفجار لا يتسبب عن الأمر ، إنما هو متسبب عن الضرب .

فرتبت هذه الأوامر على الملفوظ به .

والمحذوف : أمر بالوعظ عند خوف النشوز ، وأمر بالهجر والضرب عند النشوز .

ومعنى فلا تبغوا : فلا تطلبوا عليهن سبيلاً من السبل الثلاثة المباحة وهي : الوعظ ، والهجر ، والضرب .

وقال سفيان : معناه لا تكلفوهن ما ليس في قدرتهن من الميل والمحبة ، فإن ذلك إلى الله .

وقيل : يحتمل أن يكون تبغوا من البغي وهو الظلم ، والمعنى : فلا تبغوا عليهن من طريق من الطرق .

وانتصاب سبيلاً على هذا هو على إسقاط الخافض .

وقيل : المعنى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً من سبل البغي لهن والإضرار بهن توصيلاً بذلك إلى نشوزهن أي : إذا كانت طائعة فلا يفعل معها ما يؤدي إلى نشوزها .

ولفظ عليهن يؤذن بهذا المعنى .

وسبيلاً نكرة في سياق النفي ، فيعم النهي عن الأذى بقول أو فعل .

{ إن الله كان علياً كبيراً } لما كان في تأديبهن بما أمر تعالى به الزوج اعتلاء للزوج على المرأة ، ختم تعالى الآية بصفة العلو والكبر ، لينبه العبد على أن المتصف بذلك حقيقة هو الله تعالى .

وإنما أذن لكم فيما أذن على سبيل التأديب لهن ، فلا تستعلوا عليهن ، ولا تتكبروا عليهن ، فإنَّ ذلك ليس مشروعاً لكم .

وفي هذا وعظ عظيم للأزواج ، وإنذار أنَّ قدرة الله عليكم فوق قدرتكم عليهن .

وفي حديث أبي مسعود وقد ضرب غلاماً له اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد .

أو يكون المعنى : إنكم تعصونه تعالى على علو شأنه وكبرياء سلطانه ، ثم يتوب عليكم ، فيحق لكم أن تعفوا عنهن إذا أطعنكم .

/خ39