{ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم } قالت اليهود لما لم يرض المنافق بحكم الرسول : ما رأينا أسخف من هؤلاء لا يؤمنون بمحمد ويتبعونه ، ويطؤن عقبه ، ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا ، وبلغ القتل فينا سبعين ألفاً .
فقال ثابت بن قيس : لو كتب ذلك علينا لفعلنا فنزلت .
وروي هذا السبب بألفاظ متغايرة والمعنى قريب .
ومعنى الآية : أنه تعالى لو فرض عليهم أنْ يقتلوا أنفسهم ، إمّا أن يقتل نفسه بيده ، أو يقتل بعضهم بعضاً ، أو أن يخرجوا من ديارهم كما فرض ذلك على بني إسرائيل حين استتيبوا من عبادة العجل لم يطع منهم إلا القليل ، وهذا فيه توبيخ عظيم حيث لا يمتثل أمر الله إلا القليل .
وقال السبيعي : لما نزلت قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا .
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إنّ من أمتي رجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي » قال ابن وهب : الرجل القائل ذلك هو أبو بكر .
وروي عنه أنه قال : لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي .
وذكر أبو الليث السمرقندي : أن القائل منهم عمار ، وابن مسعود ، وثابت بن قيس .
والضمير في عليهم قيل : يعود على المنافقين ، أي : ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة ، وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم .
وقيل : يعود على الناس مؤمنهم ومنافقهم .
وكسر النون مِن أن ، وضم الواو من أو ، أبو عمرو .
وكسرهما حمزة وعاصم ، وضمهما باقي السبعة .
وأن هنا يحتمل أن تكون تفسيرية ، وأن تكون مصدرية على ما قرروا أنَّ أنْ توصل بفعل الأمر .
وفي الآية دليل على صعوبة الخروج من الديار ، إذ قرنه الله تعالى بقتل الأنفس ، وقد خرج الصحابة المهاجرون من ديارهم وفارقوا أهاليهم حين أمرهم الله تعالى بالهجرة ، وارتفع قليل ، على البدل من الواو في فعلوه على مذهب البصريين ، وعلى العطف على الضمير على قول الكوفيين ، وبالرفع قرأ الجمهور .
وقرأ أبيّ ، وابن أي إسحاق ، وابن عامر ، وعيسى بن عمر : إلا قليلاً بالنصب ، ونص النحويون على أن الاختيار في مثل هذا التركيب اتباع ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل أو العطف ، باعتبار المذهبين اللذين ذكرناهما .
وقال الزمخشري : وقرئ إلا قليلاً بالنصب على أصل الاستثناء ، أو على إلا فعلاً قليلاً انتهى .
إلا ما النصب على أصل الاستثناء فهو الذي وجه الناس عليه هذه القراءة .
وأما قوله : على إلا فعلا قليلاً فهو ضعيف لمخالفة مفهوم التأويل قراءة الرفع ، ولقوله منهم فإنه تعلق على هذا التركيب : لو قلت ما ضربوا زيداً إلا ضرباً قليلاً منهم لم يحسن أن يكون منهم لا فائدة في ذكره .
وضمير النصب في فعلوه عائد على أحد المصدرين المفهومين من قوله : أن اقتلوا أو اخرجوا .
وقال أبو عبد الله الرازي : الكناية في قوله ما فعلوه عائد على القتل والخروج معاً ، وذلك لأن الفعل جنس واحد ، وإن اختلفت صورته انتهى .
{ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً } الضمير في : ولو أنهم مختص بالمنافقين ، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاماً وآخرها خاصاً .
قال الزمخشري : ما يوعظون به من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته ، والانقياد لما يراه ويحكم به ، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ، لكان خيراً لهم في عاجلهم وآجلهم ، وأشد تثبيتاً لإيمانهم ، وأبعد من الاضطراب فيه .
وقال ابن عطية : ولو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيراً لهم ، وتثبيتاً معناه يقيناً وتصديقاً انتهى .
وكلاهما شرح ما يوعظون به بخلاف ما يدل عليه الظاهر .
لأنّ الذي يوعظ به ليس هو اتباع الرسول وطاعته ، وليس مدلول ما يوعظون به اتعظوا وأنابوا ، وقيل : الوعظ هنا بمعنى الأمر أي : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به فانتهوا عما نهوا عنه .
وقال في ري الظمآن : ما يوعظون به أي : ما يوصون ويؤمرون به من الإخلاص والتسليم .
وقال الراغب : أخبر أنهم لو قبلوا الموعظة لكان خيراً لهم .
وقال أبو عبد الله الرازي : المراد أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا ، وسمي هذا التكليف والأمر وعظاً ، لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، والثواب والعقاب ، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظاً .
وقال الماتريدي : وقيل ما يوعظون به من الأمر من القرآن .
وهذه كلها تفاسير تخالف الظاهر ، لأن الوعظ هو التذكار بما يحل بمن خالف أمر الله تعالى من العقاب ، فلموعظ به هي الجمل الدالة على ذلك ، ولا يمكن حمله على هذا الظاهر ، لأنهم لم يؤمروا بأنْ يفعلوا الموعظ به ، وإنما عرض لهم شرح ذلك بما خالف الظاهر ، لأنهم علقوا به بقوله : ما يوعظون ، على طريقة ما يفهم من قولك : وعظتك بكذا ، فتكون الباء قد دخلت على الشيء الموعظ به وهي الجملة الدالة على الوعظ .
أما إذا كان المعنى على أنّ الباء للسببية فيحمل إذ ذاك اللفظ على الظاهر ، ويصح المعنى ، ويكون التقدير : ولو أنهم فعلوا الشيء الذي يوعظون بسببه أي : بسبب تركه .
ودلّ على حذف تركه قوله : ولو أنهم فعلوا .
ويبقى لفظ يوعظون على ظاهره ، ولا يحتاج إلى ما تأولوه .
لكان خيراً لهم : أي يحصل لهم خير الدارين ، فلا يكون أفعل التفضيل .
ويحتمل أن يكونه أي : لكان أنفع لهم من غيره : وأشد تثبيتاً ، لأنه حق ، فهو أبقى وأثبت .
أو لأنّ الطاعة تدعو إلى أمثالها ، أو لأنّ الإنسان يطلب أولاً تحصيل الخير ، فإذا حصله طلب بقاءه .
فقوله : لكان خيراً لهم إشارة إلى الحالة الأولى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.