البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} (65)

شجر الأمر : التبس ، يشجر شجوراً وشجراً ، وشاجر الرجل غيره في الأمر نازعه فيه ، وتشاجروا .

وخشبات الهودج يقال لها شجار لتداخل بعضها ببعض .

ورمح شاجر ، والشجير الذي امتزجت مودته بمودّة غيره ، وهو من الشجر شبه بالتفاف الأغصان .

وقد تقدّم ذكر هذه المادّة في البقرة وأعيدت لمزيد الفائدة .

{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } قال مجاهد وغيره : نزلت فيمن أراد التحاكم إلى الطاغوت .

ورجحه الطبري لأنه أشبه بنسف الآيات .

وقيل : في شأن الرجل الذي خاصم الزبير في السقي بماء الحرة ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :

« اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك » فغضب وقال : « إن كان ابن عمتك ، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم واستوعب للزبير حقه فقال : احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر ، ثم أرسل الماء » والرجل هو من الأنصار بدري .

وقيل : هو حاطب بن أبي بلتعة .

وقيل : نزلت نافية لإيمان الرجل الذي قتله عمر ، لكونه رد حكم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومقيمة عذر عمر في قتله ، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما كنت أظن أنّ عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن » وأقسم بإضافة الرب إلى كاف الخطاب تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو التفات راجع إلى قوله : { جاؤوك } ولا في قوله : فلا .

قال الطبري : هي رد على ما تقدم تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله : وربك لا يؤمنون .

وقال غيره : قدم لا على القسم اهتماماً بالنفي ، ثم كررها بعد توكيداً للتهم بالنفي ، وكان يصح إسقاط لا الثانية ، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ، ويذهب معنى الاهتمام .

وقيل : الثانية زائدة ، والقسم معترض بين حرف النفي والمنفي .

وقال الزمخشري : لا مزيدة لتأكيد معنى القسم ، كما زيدت في لئلا يعلم لتأكيد وجوب العلم .

ولا يؤمنون جواب القسم .

( فإن قلت ) : هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر لا في .

لا يؤمنون .

( قلت ) : يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه ، وذلك قوله : { فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم } انتهى كلامه .

ومثل الآية قول الشاعر :

ولا والله لا يلقى لما بي *** ولا للما بهم أبداً دواء

وحتى هنا غاية ، أي : ينتفي عنهم الإيمان إلى هذه الغاية ، فإذا وجد ما بعد الغاية كانوا مؤمنين .

وفيما شجر بينهم عام في كل أمر وقع بينهم فيه نزاع وتجاذب .

ومعنى يحكموك ، يجعلوك حكماً .

وفي الكلام حذف التقدير : فتقضي بينهم .

{ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } أي ضيقاً من حكمك .

وقال مجاهد : شكا لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له البيان .

وقال الضحاك : إثماً أي : سبب إثم .

والمعنى : لا يخطر ببالهم ما يأثمون به من عدم الرضا .

وقيل : هماً وحزناً ، ويسلموا أي ينقادوا ويذعنوا لقضائك ، لا يعارضون فيه بشيء قاله : ابن عباس والجمهور .

وقيل : معناه ويسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك ، ذكره الماوردي ، وأكد الفعل بالمصدر على سبيل صدور التسليم حقيقة ، وحسَّنه كونه فاصلة .

وقرأ أبو السمال : فيما شجر بسكون الجيم ، وكأنه فرَّ من توالي الحركات ، وليس بقوي لخفة الفتحة بخلاف الضمة والكسرة ، فإن السكون بدلهما مطرد على لغة تميم .