البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ} (30)

ولما أطنب تعالى في وعيد الكفار ، أردفه بوعيد المؤمنين ؛ وليس المراد التلفظ بالقول فقط ، بل لا بد من الاعتقاد المطابق للقول اللساني .

وبدأ أولاً بالذي هو أمكن في الإسلام ، وهو العلم بربوبية الله ، ثم أتبعه بالعمل الصالح وهو الاستقامة .

وعن سفيان بن عبد الله الثقفي ، قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرني بأمر أعتصم به ، قال : " قل ربي الله ثم استقم " قلت : ما أخوف ما تخاف علي ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال : «هذا » وعن الصديق : ثم استقاموا على التوحيد ، لم يضطرب إيمانهم .

وعن عمر : استقاموا لله بطاعته لم يرو غواروا روغان الثعالب .

وعن عثمان : أخلصوا العمل .

وعن علي : أدوا الفرائض .

وقال أبو العالية ، والسدي : استقاموا على الإخلاص والعمل إلى الموت .

وقال الثوري : عملوا على وفاق ما قالوا .

وقال الفضل : زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية .

وقال الربيع : أعرضوا عن ما سوى الله تعالى .

وقيل : استقاموا فعلا كما استقاموا قولاً .

وعن الحسن وقتادة وجماعة : استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي .

قال الزمخشري : وثم لتراخي الاستقامة عن الإقرار في المرتبة وفضلها عليه ، لأن الاستقامة لها الشأن كله ، ونحوه قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } والمعنى : ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته .

وعن الصديق رضي الله عنه أنه تلاها ثم قال : ما تقولون فيها ؟ قالوا : لم يذنبوا ، قال : حملتم الأمر على أشده ، قالوا : فما تقول ؟ قال لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان . انتهى .

{ تتنزل عليهم الملائكة } ، قال مجاهد والسدي : عند الموت .

وقال مقاتل : عند البعث .

وقيل : عند الموت ، وفي القبر ، وعند البعث .

وأن ناصبة للمضارع ، أي بانتفاء خوفكم وحزنكم ، قال معناه الحوفي وأبو البقاء .

وقال الزمخشري : بمعنى أي أو المخففة من الثقيلة ، وأصله بأنه لا تخافوا ، والهاء ضمير الشأن . انتهى .

وعلى هذين التقديرين يكون الفعل مجزوماً بلا الناهية ، وهذه آية عامة في كل هم مستأنف وتسلية تامة عن كل فائت ماض ، ولذلك قال مجاهد : لا تخافوا ما تقدرون عليه ، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم .

وقال عطاء بن أبي رباح : { لا تخافوا } رد ثوابكم ، فإنه مقبول ؛ { ولا تحزنوا } على ذنوبكم ، فإني أغفرها لكم .

وفي قراءة عبد الله : لا تخافوا بإسقاط أن ، أي تتنزل عليهم الملائكة قائلين : لا تخافوا ولا تحزنوا .

ولما كان الخوف مما يتوقع من المكروه أعظم من الحزن على الفائت قدمه ، ثم لما وقع الأمن لهم ، بشروا بما يؤولون إليه من دخول الجنة ، فحصل لهم من الأمن التام والسرور العظيم بما سيفعلون من الخير .