البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (51)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } قال الزهري وغيره : سبب نزولها ولها قصة عبد الله بن أبيّ واستمساكه بحلف يهود ، وتبرؤ عبادة بن الصامت من حلفهم عند انقضاء بدر وعبادة ، في قصة فيها طول هذا ملخصها .

وقال عكرمة : سببها أمر أبي لبابة بن عبد المنذر وإشارته إلى قريظة أنه الذبح حين استفهموه عن رأيه في نزولهم عن حكم سعد بن معاذ .

وقال السدّي : لما نزل بالمسلمين أمر أحد فزع منهم قوم ، وقال بعضهم لبعض : نأخذ من اليهود عهداً يعاضدونا إن ألمت بنا قاصمة من قريش أو سائر العرب .

وقال آخرون : بل نلحق بالنصارى فنزلت .

وقيل : هي عامّة في المنافقين أظهروا الإيمان وظاهروا اليهود والنصارى .

نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ينصرونهم ويستنصرون بهم ، ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين .

وقراءة أبيّ وابن عباس : أرباباً مكان أولياء ، بعضهم أولياء بعض جملة معطوفة من النهي مشعرة بعلة الولاية وهو اجتماعهم في الكفر والممالأة على المؤمنين ، والظاهر أن الضمير في بعضهم يعود على اليهود والنصارى .

وقيل : المعنى على أن ثمّ محذوفاً والتقدير : بعض اليهود أولياء بعض ، وبعض النصارى أولياء بعض ، لأن اليهود ليسوا أولياء النصارى ، ولا النصارى أولياء اليهود ، ويمكن أن يقال : جمعهم في الضمير على سبيل الإجمال ، ودل ما بينهم من المعاداة على التفصيل ، وأنّ بعض اليهود لا يتولى إلا جنسه ، وبعض النصارى كذلك .

قال الحوفي : هي جملة من مبتدأ وخبر في موضع النعت لأولياء ، والظاهر أنها جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب .

{ ومن يتولهم منكم فإنه منهم } قال ابن عباس : فإنه منهم في حكم الكفر ، أي ومن يتولهم في الدين .

وقال غيره : ومن يتولهم في الدنيا فإنه منهم في الآخرة .

وقيل : ومن يتولهم منكم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر .

وهذا تشديد عظيم في الانتفاء من أهل الكفر ، وترك موالاتهم ، وإنحاء عبد الله بن أبي ومن اتصف بصفته .

ولا يدخل في الموالاة لليهود والنصارى من غير مصافاة ، ومن تولاهم بأفعاله دون معتقده ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمّة ، ومن تولاهم في المعتقد فهو منهم في الكفر .

وقد استدل بهذا ابن عباس وغيره على جواز أكل ذبائح نصارى العرب ، وقال : من دخل في دين قوم فهو منهم .

وسئل ابن سيرين عن رجل يبيع داره لنصراني ليتخذها كنيسة : فتلا هذه الآية .

وفي الحديث : « لا تراءى ناراهما » وقال عمر لأبي موسى في كاتبه النصراني : لا تكرموهم إذ أهانهم الله ، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم الله ، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله تعالى .

وقال له أبو موسى لا قوام للصرة إلا به ، فقال عمر : مات النصراني والسلام .

{ إن الله لا يهدي القوم الظالمين } ظاهره العموم والمعنى على الخصوص ، أي : من سبق في علم الله أنه لا يهتدي .

قال ابن عطية : أو يراد التخصيص مدة الظلم والتلبس بفعله ، فإن الظلم لا هدى فيه ، والظالم من حيث هو ظالم ليس بمهتد في ظلمه .

وقال أبو العالية : الظالم من أبي أن يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له .

وقال ابن إسحاق : أراد المنافقين .

وقيل : الظالم هو الذي وضع الولاية في غير موضعها .

وقال الزمخشري قريباً من هذا ، قال : يعني الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر يمنعهم الله ألطافه ، ويخذلهم مقتاً لهم انتهى .

وهو على طريقة الاعتزال .