البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

السَّحْت والسحُت بسكون الحاء وضمها الحرام ، سمي بذلك لأنه يسحت البركة أي يذهبها .

يقال : سحته الله أي أهلكه ، ويقال : أسحته ، وقرئ بهما في قوله : { فيسحتكم بعذاب } أي يستأصلكم ويهلككم ، ومنه قول الفرزدق :

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع *** من المال إلا مسحتاً أو مجلف

ومصدر الثلاثي سحت بفتحتين ، وسحت بإسكان الحاء .

وقال الفراء : أصل السحت كلب الجوع ويقال : فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلقى أبداً إلا خائفاً ، وهو راجع لمعنى الهلاك .

{ سماعون للكذب أكالون للسحت } قال الحسن : يسمعون الكلام ممن يكذب عندهم في دعواه فيأتيهم برشوة فيأخذونها .

وقال أبو سليمان : هم اليهود ويسمعون الكذب ، وهو قول بعضهم لبعض : محمد كاذب ليس بنبي ، وليس في التوراة الرجم ، وهم يعلمون كذبهم .

وقيل : الكذب هنا شهادة الزور انتهى .

وهذا الوصف إن كان قوله أوّلاً : سماعون للكذب ، وصفاً لبني إسرائيل .

وتقدم أن السحت المال الحرام .

واختلف في المراد به هنا ، فعن ابن مسعود : أنه الرشوة في الحكم ، ومهر البغي ، وحلوان الكاهن ، وثمن الكلب ، والنرد ، والخمر ، والخنزير ، والميتة ، والدم ، وعسب الفحل ، وأجرة النائحة والمغنية ، والساحر ، وأجر مصوّر التماثيل ، وهدية الشفاعة .

قالوا وسمي سحتاً المال الحرام لأنه يسحت الطاعات أو بركة المال أو الدين أو المروءة وعن ابن مسعود ومسروق : أن المال المأخوذ على الشفاعة سحت .

وعن الحسن : أنّ ما أكل الرجل من مال من له عليه دين سحت .

وقيل لعبد الله : كنا نرى أنه ما أخذ على الحكم يعنون الرشا ، قال : ذلك كفر ، قال تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } .

وقال أبو حنيفة : إذا ارتشى الحاكم يعزل ، وفي الحديث : « كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به » وقال علي وأبو هريرة : كسب الحجام سحت ، يعني أنه يذهب المروءة ، وما ذكر في معنى السحت فهو من أمثلة المال الذي لا يحل كسبه .

ومن أعظم السحت الرشوة في الحكم ، وهي المشار إليها في الآية .

كان اليهود يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام .

وعن الحسن : كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراه إياها ، وتكلم بحاجته ، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه ، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب .

وقرأ النحويان وابن كثير : السحت بضمتين .

وقرأ باقي السبعة : بإسكان الحاء .

وزيد بن علي وخارجة بن مصعب عن نافع : بفتح السين وإسكان الحاء ، وقرئ بفتحتين .

وقرأ عبيد بن عمير : بكسر السين وإسكان الحاء ، فبالضم والكسر والفتحتين اسم المسحوت كالدهن والرّعي والنبض ، وبالفتح والسكون مصدر أريد به المفعول كالصيد بمعنى المصيد ، أو سكنت الحاء طلباً للخفة .

{ فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } أي فإن جاؤوك للحكم بينهم فأنت مخير بين أن تحكم ، أو تعرض .

والظاهر بقاء هذا الحكم من التخيير لحكام المسلمين .

وعن عطاء ، والنخعي ، والشعبي ، وقتادة ، والأصم ، وأبي مسلم ، وأبي ثور : أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين ، فإن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا أعرضوا .

وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وعطاء الخراساني ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري : التخيير منسوخ بقوله : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } فإذا جاؤوا فليس للإمام أن يردهم إلى أحكامهم .

والمعنى عند غيرهم : وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذا اخترت الحكم بينهم دون الإعراض عنهم .

وعن أبي حنيفة : إنْ احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام ، وأقيم الحدّ على الزاني بمسلمة ، والسارق من مسلم .

وأما أهل الحجاز فلا يرون إقامة الحدود عليهم ، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود ، ويقولون : إنّ رجم اليهوديين كان قبل نزول الجزية .

وقال ابن عطية : الأمة مجمعة على أنّ حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم ، ويتسلط عليهم في تغيير ، ومن ذلك حبس السلع المبيعة وغصب المال .

فأما نوازل الأحكام التي لا تظالم فيها ، وإنما هي دعاء ومحتملة ، فهي التي يخير فيها الحاكم انتهى .

وفيه بعض تلخيص .

وظاهر الآية يدل على مجيء المتداعيين إلى الحاكم ، ورضاهما بحكمه كاف في الإقدام على الحكم بينهما .

وقال ابن القاسم : لا بد مع ذلك من رضا الأساقفة والرهبان ، فإنْ رضي الأساقفة دون الخصمين ، أو الخصمان دون الأساقفة ، فليس له أن يحكم .

وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، والزهري ، وغيرهم : فإن جاؤوك يعني أهل نازلة الزانيين ، ثم الآية تتناول سائر النوازل .

وقال قوم : في قتيل اليهود من قريظة والنضير .

وقال قوم : التخيير مختص بالمعاهدين لازمة لهم .

ومذهب الشافعي : أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه ، لأنّ في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم ، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب عليه أن يحكم بينهم ، بل يتخير في ذلك ، وهو التخيير الذي في الآية وهو مخصوص بالمعاهدين .

وروي عن الشافعي مثل قول عطاء والنخعي .

{ وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً } أي أنت آمن من ضررهم ، منصور عليهم على كل حال .

وكانوا يتحاكمون إليه لطلب الأيسر والأهون عليهم ، فالجلد مكان الرجم ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم ، وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضروه ، فأمنه الله منهم ، وأخبره أنهم ليسوا قادرين على شيء من ضرره .

{ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } أي : وإن أردت الحكم بالقسط بالعدل كما تحكم بين المسلمين .

والقسط : هو المبين في قوله { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالقسط ، فهو أمر معناه الخبر أي : فحكمك لا يقع إلا بالعدل ، لأنك معصوم من اتباع الهوى .

{ إن الله يحب المقسطين } وأنت سيدهم ، فمحبته إياك أعظم من محبته إياهم .

وفيه حث على توخي القسط وإيثاره ، حيث ذكر الله أنه يحب من اتصف به .