البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلۡيَحۡكُمۡ أَهۡلُ ٱلۡإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (47)

{ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه } أمر تعالى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية ، وقلنا لهم : احكموا ، أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لا يمكن ذلك أن يكون بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع ، أو بما أنزل الله فيه مخصوصاً بالدلائل الدالة على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول الأصم ، أو بخصوص الزمان إلى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو عبر بالحكم بما أنزل الله فيه عن عدم تحريفه وتغييره .

فالمعنى : وليقرأه أهل الإنجيل على الوجه الذي أنزل لا يغيرونه ولا يبدلونه ، وهذا بعيد .

وظاهر الأمر يرد قول من قال : إن عيسى كان متعبداً بأحكام التوراة .

وقال تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } ولهذا القائل أن يقول : بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة .

والذي يظهر أن الأحكام في الإنجيل قليلة ، وإنما أكثره زواجر .

وتلك الأحكام المخالفة لأحكام التوراة أمروا بالعمل بها ، ولهذا جاء : ولأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم } .

وقرأ الجمهور : وليحكم بلام الأمر ساكنة ، وبعض القراء يكسرها .

وقرأ أبيّ : وأن ليحكم بزيادة أن قبل لام كي ، وتقدّم كلام الزمخشري فيما يتعلق به .

وقال ابن عطية : والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه انتهى .

فعطف وليحكم على توهم علة ولذلك قال : ليتضمن الهدى .

والزمخشري جعله معطوفاً على هدى وموعظة ، على توهم النطق باللام فيهما كأنه قال : وللهدى والموعظة وللحكم أي : جعله مقطوعاً مما قبله ، وقدر العامل مؤخراً أي : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه إياه .

وقول الزمخشري أقرب إلى الصواب ، لأن الهدي الأول والنور والتصديق لم يؤت بها على سبيل العلة ، إنما جيء بقوله : فيه هدى ونور ، على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً ، وهذا معنى الحال ، والحال لا يكون علة .

فقول ابن عطية : ليتضمن كيت وكيت ، وليحكم ، بعيد .

{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } ناسب هنا ذكر الفسق ، لأنه خرج عن أمر الله تعالى إذ تقدم قوله : وليحكم ، وهو أمر .

كما قال تعالى : { اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه } أي : خرج عن طاعة أمره تعالى .

فقد اتضح مناسبة ختم الجملة الأولى بالكافرين ، والثانية بالظالمين ، والثالثة بالفاسقين .

وقال ابن عطية : وتكرير هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التوكيد ، وأصوب ما يقال فيها : أنها تعم كل مؤمن وكافر ، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه ، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها .

وقال القفال : هي لموصوف واحد كما تقول : من أطاع الله فهو البر ، ومن أطاع فهو المؤمن ، ومن أطاع فهو المتقي .

وقيل : الأول في الجاحد ، والثاني والثالث في المقر التارك .

وقال الأصم : الأول والثاني في اليهود ، والثالث في النصارى .

وعلى قول ابن عطية يعم كل كافر ومؤمن ، يكون إطلاق الكافرين والظالمين والفاسقين عليهم للاشتراك في قدر مشترك .