البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ ثُمَّ ٱنظُرۡ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (75)

الإفك : بفتح الهمزة مصدر أفكه يأفكه ، أي قلبه وصرفه .

ومنه : { أجئتنا لتأفكنا } يؤفك عنه من أفك .

قال عروة بن أذينة :

إن كنت عن أحسن المروءة مأ *** فوكاً ففي آخرين قد أفكوا

وقال أبو زيد : المأفوك المأفون ، وهو الضعيف العقل .

وقال أبو عبيدة : رجل مأفوك لا يصيب خيراً ، وائتفكت البلدة بأهلها انقلبت ، والمؤتفكات مدائن قوم لوط عليه السلام قلبها الله تعالى .

والمؤتفكات أيضاً الرياح التي تختلف مهابّها .

{ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } لما رد على النصارى قولهم الأول بقول المسيح : { اعبدو الله ربي وربكم } والثاني بقوله : { وما من إله إلا إله واحد } أثبت له الرسالة بصورة الحصر ، أي ما المسيح ابن مريم شيء مما تدعيه النصارى من كونه إلهاً وكونه أحد آلهة ثلاثة ، بل هو رسول من جنس الرسل الذين خلوا وتقدموا ، جاء بآيات من عند الله كما جاءوا ، فإن أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص على يده ، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى ، وفلق البحر ، وطمس على يد موسى ، وإن خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر وأنثى .

وفي قوله : إلا رسول رد على اليهود حيث ادعوا كذبه في دعوى الرسالة ، وحيث ادعوا أنه ليس لرشده .

وقرأ حطان : من قبله رسل بالتنكير .

{ وأمه صدِّيقة } هذا البناء من أبنية المبالغة ، والأظهر أنه من الثلاثي المجرد ، إذ بناء هذا التركيب منه سكيت وسكير ، وشريب وطبيخ ، من سكت وسكر ، وشرب وطبخ .

ولا يعمل ما كان مبنياً من الثلاثي المتعدي كما يعمل فعول وفعال ومفعال ، فلا يقال : زيد شريب الماء ، كما تقول : ضراب زيداً ، والمعنى : الإخبار عنها بكثرة الصدق .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون من التصديق ، وبه سمي أبو بكر الصديق .

ولم يذكر الزمخشري غير أنه من التصديق .

وهذا القول خلاف الظاهر من هذا البناء .

قال الزمخشري : وأمه صديقة أي وما أمه لا كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم ، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين : أحدهما نبي ، والآخر صحابي ، فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم ؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه انتهى .

وفيه تحميل لفظ القرآن ما ليس فيه ، من ذلك أن قوله : وأمه صديقة ليس فيه إلا الإخبار عنها بصفة كثرة الصدق ، وجعله هو من باب الحصر فقال : وما أمه إلا كبعض النساء المصدقات إلى آخره ، وهكذا عادته يحمل ألفاظ القرآن ما لا تدل عليه .

قال الحسن : صدقت جبريل عليه السلام لما أتاها كما حكى تعالى عنها : { وصدقت بكلمات ربها وكتبه } وقيل : صدقت بآيات ربها ، وبما أخبر به ولدها .

وقيل : سميت بذلك لمبالغتها في صدق حالها مع الله ، وصدقها في براءتها مما رمتها به اليهود .

وقيل : وصفها بصديقة لا يدل على أنها نبية ، إذ هي رتبة لا تستلزم النبوة .

قال تعالى : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين } ومن ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ولا يلزم من تكليم الملائكة بشراً نبوته فقد كلمت الملائكة قوماً ليسوا بأنبياء لحديث الثلاثة : الأقرع ، والأعمى ، والأبرص .

فكذلك مريم .

{ كانا يأكلان الطعام } هذا تنبيه على سمة الحدوث ، وتبعيد عما اعتقدته النصارى فيهما من الإلهية ، لأنّ من احتاج إلى الطعام وما يتبعه من العوارض لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك ، وهو مما يدل على مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام ، ولا حاجة تدعو إلى قولهم : كانا يأكلان الطعام كناية عن خروجه ، وإن كان قد قاله جماعة من المفسرين ، وإنما ذلك تنبيه على سمات الحدوث .

والحاجة إلى التغذي المفتقر إليه الحيوان في قيامه المنزه عنه الإله ، قال تعالى : { وهو يطعِم ولا يطعَم } وإن كان يلزم من الاحتياج إلى أكل الطعام خروجه ، فليس مقصوداً من اللفظ مستعاراً له ذلك .

وهذه الجملة استئناف إخبار عن المسيح وأمه منبهة كما ذكرنا على سمات الحدوث ، وأنهما مشاركان للناس في ذلك ، ولا موضع لهذه من الجملة من الإعراب .

{ انظر كيف نبين لهم الآيات } أي الاعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان ما اعتقدوه ، وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم .

وفي ضمن ذلك الأمر لأمته في ضلال هؤلاء وبعدهم عن قبول ما نبهوا عليه .

{ ثم انظر أنى يؤفكون } كرر الأمر بالنظر لاختلاف المتعلق ، لأن الأول : أثر بالنظر في كونه تعالى أوضح لهم الآيات وبينها بحيث لا يقع معها لبس ، والأمر الثاني : هو بالنظر في كونهم يصرفون عن استماع الحق وتأمله ، أو في كونهم يقلبون ما بين لهم إلى الضد منه ، وهذان أمرا تعجيب .

ودخلت ثم لتراخي ما بين العجبين ، وكأنه يقتضي العجب من توضيح الآيات وتبيينها ، ثم ينظر في حال من بينت له فيرى إعراضهم عن الآيات أعجب من توضيحها ، لأنه يلزم من تبيينها تبينها لهم والرجوع إليها ، فكونهم أفكوا عنها أعجب .