البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلۡأُنثَىٰ} (21)

20

وكانوا يقولون في هذه الأصنام : هي بنات الله ، فالمعنى : ألكم النوع المحبوب المستحسن الموجود فيكم ، وله النوع المذموم بزعمكم ؟ وهو المستثقل .

وحسن إبراز الأنثى كونه نصاً في اعتقادهم أنهن إناث ، وأنهن بنات الله تعالى ، وإن كان في لحاق تاء التأنيث في اللات وفي مناة ، وألف التأنيث في العزى ، ما يشعر بالتأنيث ، لكنه قد سمى المذكر بالمؤنث ، فكان في قوله : { الأنثى } نص على اعتقاد التأنيث فيها .

وحسن ذلك أيضاً كونه جاء فاصلة ، إذ لو أتى ضميراً ، فكان التركيب ألكم الذكر وله هن ، لم تقع فاصلة .

وقال الزجاج : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها ، فيقول : أخبروني عن آلهتكم ، هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآي السالفة ؟ انتهى .

فجعل المفعول الثاني لأفرأيتم جملة الاستفهام التي قدرها ، وحذفت لدلالة الكلام السابق عليها ، وعلى تقديره يبقى قوله : { ألكم الذكر وله الأنثى } متعلقاً بما قبله من جهة المعنى ، لا من جهة المعنى الإعراب ، كما قلناه نحن .

ولا يعجبني قول الزجاج : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها ، ولو قال : وجه اتصال هذه ، أو وجه انتظام هذه مع ما قبلها ، لكان الجيد في الأدب ، وإن كان يعني هذا المعنى .

وقال ابن عطية : { أفرأيتم } خطاب لقريش ، وهي من رؤية العين ، لأنه أحال على أجرام مرئية ، ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء لم تتعد . انتهى .

ويعني بالأجرام : اللات والعزى ومناة ، وأرأيت التي هي استفتاء تقع على الأجرام ، نحو : أرأيت زيداً ما صنع ؟ وقوله : ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء ، يعني الذي تقول النحاة فيه إنها بمعنى أخبرني ، لم تتعد ؛ والتي هي بمعنى الاستفتاء تتعدى إلى اثنين ، أحدهما منصوب ، والآخر في الغالب جملة استفهامية .

وقد تكرر لنا الكلام في ذلك ، وأوله في سورة الأنعام .

ودل كلام ابن عطية على أنه لم يطالع ما قاله الناس في أرأيت إذا كانت استفتاء على اصطلاحه ، وهي التي بمعنى أخبرني .

والظاهر أن { الثالثة الأخرى } صفتان لمناة ، وهما يفيدان التوكيد .

قيل : ولما كانت مناة هي أعظم هذه الأوثان ، أكدت بهذين الوصفين ، كما تقول : رأيت فلاناً وفلاناً ، ثم تذكر ثالثاً أجل منهما فتقول : وفلاناً الآخر الذي من شأنه .

ولفظة آخر وأخرى يوصف به الثالث من المعدودات ، وذلك نص في الآية ، ومنه قول ربيعة بن مكرم :

ولقد شفعتهما بآخر ثالث . . .

انتهى .

وقول ربيعة مخالف للآية ، لأن ثالثاً جاء بعد آخر .

وعلى قول هذا القائل أن مناة هي أعظم هذه الأوثان ، يكون التأكيد لأجل عظمها .

ألا ترى إلى قوله : ثم تذكر ثالثاً أجل منهما ؟ وقال الزمخشري : والأخرى ذم ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار ، كقوله تعالى : { قالت أخراهم لأولاهم } أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم .

ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم اللات والعزى . انتهى .

ولفظ آخر ومؤنثه أخرى لم يوضعا للذم ولا للمدح ، إنما يدلان على معنى غير ، إلا أن من شرطهما أن يكونا من جنس ما قبلهما .

لو قلت : مررت برجل وآخر ، لم يدل إلا على معنى غير ، لا على ذم ولا على مدح .

وقال أبو البقاء : والأخرى توكيد ، لأن الثالثة لا تكون إلا أخرى . انتهى .

وقيل : الأخرى صفة للعزى ، لأنها ثانية اللات ؛ والثانية يقال لها الأخرى ، وأخرت لموافقة رؤوس الآي .

وقال الحسن بن الفضل : فيه تقديم وتأخير تقديره : والعزى الأخرى ، ومناة الثالثة الذليلة ، وذلك لأن الأولى كانت وثناً على صورة آدمي ، والعزى صورة نبات ، ومناة صورة صخرة .

فالآدمي أشرف من النبات ، والنبات أشرف من الجماد .

فالجماد متأخر ، ومناة جماد ، فهي في أخريات المراتب .

والإشارة بتلك إلى قسمتهم ، وتقديرهم : أن لهم الذكران ، ولله تعالى البنات .

وكانو يقولون : إن هذه الأصنام والملائكة بنات الله تعالى .