اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلۡأُنثَىٰ} (21)

قوله : ( وَمَنَاةَ ) قرأ ابن كثير{[53532]} : مَنَأَةَ بهمزة مفتوحة بعد الألف ، والباقون بألف{[53533]} وحدها ، وهي صخرة كانت تعبد من دون الله . فأما قراءة ابن كثير فاشتقاقها من النَّوْءِ ، وهو المطر ، لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء ووزنها حينئذ «مَفْعَلَة » فألفها عن واو وهمزتها أصلية وميمها زائدة وأنشدوا على ذلك :

أَلا هَلْ أَتَى تَيْم بْنَ عَبْدِ مَنَاءَةٍ *** عَلَى النَّأيِ فِيمَا بَيْنَنَا ابْنُ تَمِيمِ{[53534]}

وقد أنكر أبو عبيدة قراءة ابْنِ كثير ، وقال : لم أسمع الْهَمْز{[53535]} .

قال شهاب الدين : قد سمعه غيرهُ ، والبيت حجَّةٌ عليه{[53536]} . وأما قراءة العامة فاشتقاقها من مَنَى يَمْنِي أي صَبَّ لأن دِمَاءَ النَّسائك كانت تُصَبُّ عندَها{[53537]} ، وأنشدوا لجرير :

أَزَيْدَ مَنَاةَ تُوعِدُ يَا ابْنَ تَيْمٍ *** تَأَمَّلْ أَيْنَ تَاهَ بِكَ الوَعِيدُ{[53538]}

وقال أبو البقاء : وألفه عن ياء كقولك : مَنَى يَمْنِي إذا قدر ، ويجوز أن تكون من الواو ، ومنه مَنَوَانِ{[53539]} فوزنها على قراءة القصر فَعَلَةٌ .

فصل

قال قتادة : مناة صخرة كانت لخُزَاعةَ بقَدِيد . وقالت عائشة ( رضي الله عنها ){[53540]} في الأنصار كانوا يصلون لمناةَ فكانت حذو قَديدٍ . وقال ابن زيد : بيت كان بالمشلل تعبده بنو كعب . وقال الضحاك مناة صنم لهُذَيْل وخُزَاعَة تعبده أهل مكة . وقيل : اللاَّتُ والعُزَّى ومناة أصنامٌ مِنْ حجارةٍ كانت في جوف الكعبة يعبدونها .

قوله : ( الأُخْرَى ) صفة لمَنَاةَ{[53541]} . قال أبو البقاء : و«الأُخْرَى » توكيد لأن الثالثة لا تكون إلا أُخْرَى{[53542]} .

وقال الزمخشري : والأخرى ذم وهي المتأخِّرة الوضيعة المقدار ، كقوله{[53543]} : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ } [ الأعراف : 38 ] أي وُضَعاؤهم لأَشْرَافِهمْ{[53544]} . ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم لِلاَّتِ والْعُزَّى{[53545]} . انتهى .

وفيه نظر ، لأن «الأخرى » إنما تدل على الغيرية ، وليس فيها تعريض لمدح ولا ذمٍّ ، فإن جاء شيء فلقرينة خارجيَّةٍ .

وقيل : الأخرى صفة للعُزَّى ؛ لأن الثانية أخرى بالنسبة إلى الأولى{[53546]} . وقال الحُسَيْنُ بن الفَضْلِ : فيه تقديم وتأخير أي العزَّى الأُخْرَى ، ومناة الثالثة . ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأن الأصل عَدَمُهُ{[53547]} .

فصل

قال ابن الخطيب : فإنْ قِيلَ : إنما يقال : أَخَّرُوا «أُخْرى » إذا ( تقدم ) {[53548]} أول مشاركٌ للثاني فلا يقال جَاءَنِي رَجُلٌ وامْرَأَةٌ أُخْرَى فيلزم أن تكون العُزَّى ثالثةً !

فالجواب : قد يستعمل الآخر والأُخرى للذَّمِّ ، فالمراد بالأخرى المتأخرة الذليلة . واللات على صورة آدمّي{[53549]} . والعُزَّى شجرة وهي نبات . وقيل : صخرة جَمَاد وهي متأخرة عنهما . أو في الكلام حذف أي اللات والعزى المعبودين بالباطل ومناة الثالثة الأخرى . أو المعنى ومناة الأخرى الثالثة على التقديم والتأخير{[53550]} . ومعنى الآية هل رأيتم هذه الأصنام حقَّ الرؤية فَإنْ رأيتموها علمتم أنها لا تَصْلُحُ للإلهيَّةِ . والمقصود إبطال الشركاء وإثبات التوحيد .

فصل

«أرأيت » بمعنى أخبرني فيتعدى لاثنين أولهما اللات وما عطف عليه ، والثاني : الجملة الاستفهامية من قوله : «ألَكُمُ الذَّكَرُ » .

فإن قيل : لم يعد من هذه الجملة ضمير على المفعول الأول .

فالجواب : أن قوله «وَلَهُ الأُنْثَى » في قوة : له هذه الأصنام وإن كان أصل التركيب ألكم الذكر وله هُنَّ أي تلك الأصنام . وإنما أوثر هذا الاسم الظاهر لوقوعه رأسَ فاصلةٍ{[53551]} .

وقد جعل الزجاج المفعولَ الثَّانِي محذوفاً ، فإنَّه قال : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها فيقول أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها ربّ العزة في الآي السالِفةِ . انتهى{[53552]} .

فعلى هذا يكون قوله ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ ) مُتعلِّقاً بما قبله من حيثُ المَعْنى لا من حيثُ الإعراب{[53553]} .

وجعل ابن عطية الرؤية هنا بصرية فقال : وهي من رؤية العين ، لأنه أحال على أجرام مرئيَّة ، ولو كانت «أرأيت » التي هي استفتاء لم يتعد{[53554]} . وقد تقدم الكلام على ذلك في الأنعام وغيرها .

فإن قيل : ما فائدة الفاء في قوله : «أَفَرَأَيْتُمْ » وقد وردت في مواضعَ بغير فاء ، كقوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ الزمر : 38 ] ( و ) { أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ } [ فاطر : 40 ] .

فالجواب : لما تقدم عظمة الله في ملكوته وأن رسوله إلى الرسل يسد الآفاق ببعض أجنحته ويهلك المدائن بشدته وقوته ولا يمكنه مع هذا أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته قال : أَفَرَأَيْتُمْ هذه الأصنام مع ذلتها وحقارتها شركاء لله مع ما تقدم فقال بالفاء أي عقيب ما سمعتم من عَظَمَةِ آياتِ الله الكبرى ونفادِ أمْرِهِ في الملأ الأعلى وما تحت الثَّرى انظروا إلى اللات والعزى تَعْلَمُوا فَسَادَ ما ذهبتم إليه{[53555]} .

قوله تعالى : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى } قال الكلبي : كان المشركون بمكة يقولون للأصنام والملائكة بناتِ الله .

قال ابن الخطيب : معناه كيف جعلتم لله البنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البناتِ ناقصاتٌ والبنون كاملونَ والله كامل العظمة فكيف نسبتم إليه الناقص وهو في غاية الذلة والحقارة حيث عبدتم الجماد من الحجارة والشجر ثم نسبتم إليكم الكامل فهذه قسمةٌ جائرةٌ على زعمكم وعادتكم لأنه كان ينبغي أن تجعلوا الأعظم للعظيم والأنقص للحقير فخالفتم النقل والعقل والعادة ؟{[53556]}


[53532]:وهي قراءة ابن مُحيصِن أيضا وحُميد ومجاهد والسُّلمي والأعمش عن أبي بكر.
[53533]:وهما لغتان وانظر الإتحاف 403 والقرطبي 17/101.
[53534]:نسبه القرطبي لهَوبَر الحارثي بلفظ: "التّيم" بدل "تيم" و"الشيء" بدل "النأي". وشاهده: مدّ "مناة" هو جائز القصر والمد. وانظر البحر 8/161 وروح المعاني للألوسي 27/55، والقرطبي 17/102.
[53535]:لم أجده في المجاز له 2/236.
[53536]:وانظر الدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم 116.
[53537]:القرطبي 17/101.
[53538]:من الوافر له وفي البحر: بأس تيم وفي الديوان تبيّن بدل تأمّل. والشاهد: في مناة فإن الهمز أصل ولكنهم قصروا لأن القصر أشهر. وانظر البحر 8/161 والديوان دار صادر ص 129، وفتح القدير 5/108.
[53539]:التبيان 1188. رغم أنه يجوز: منيان وهو تثتية "من" وهو الكيل أو الميزان الذي يوزن به ولكن مَنَوان أعلى من مَنَيان. وانظر اللسان مني 4285.
[53540]:زيادة من (أ).
[53541]:وانظر البغوي والخازن 6/263.
[53542]:التبيان 1188.
[53543]:في (أ) كقولك. وفي الكشاف: كقوله تعالى.
[53544]:وفيه لرؤسائهم وأشرافهم.
[53545]:وانظر الكشاف 4/30.
[53546]:نقله القرطبي في تفسيره ولم يحدد من قال به، انظر القرطبي 17/102
[53547]:وانظر المرجع السابق.
[53548]:سقط من (ب) وقال الناسخ: كذا بياض من الأصل.
[53549]:بالمعنى من الرازي 28/296.
[53550]:الرازي والقرطبي السابقين.
[53551]:بالمعنى من البحر 8/161.
[53552]:اللفظ لفظ أبي حيان في البحر 8/161 فقد قال في إعراب القرآن 5/72: كأن المعنى –والله أعلم –أخبرونا عن هذه الآلهة التي لكم تعبدونها من دون الله عز وجل، هل لها من هذه القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة –جل وعزّ- شيء؟.
[53553]:البحر السابق.
[53554]:البحر المحيط السابق أيضا وقد هاجم أبو حيان ابن عطية قائلا: "ودل كلام ابن عطية على أنه لم يطالع ما قاله الناس في "أرأيت إذا كان استفتاء" على اصطلاحه وهي التي بمعنى أخبرني". ويقصد بآية الأنعام قوله: {قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون} من الآية 40 منها.
[53555]:الرازي 28/296 و297.
[53556]:بالمعنى من التفسير الكبير للرازي 28/297.