{ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } هذه السورة مكية كلها .
وقال الكسائي : إلا آيتين نزلتا بالمدينة وهما { قل من أنزل الكتاب } وما يرتبط بها .
وقال ابن عباس : نزلت ليلاً بمكة حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح ، إلا ست آيات قل : { تعالوا أتلُ } { وما قدروا الله } { ومن أظلم ممن افترى } .
{ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون } .
{ والذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } ، انتهى .
وعنه أيضاً وعن مجاهد والكلبي إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة { قل تعالوا أتلُ } إلى قوله { لعلكم تتقون } وقال قتادة : إلا { وما قدروا الله حق قدره } { وهو الذي أنشأ } ، وذكر ابن العربي أن قوله { قل لا أجد } نزل بمكة يوم عرفة .
وتقدّم تفسير { الحمد لله } في أول الفاتحة وتفسير { خلق السموات والأرض } في قوله :
{ إن في خلق السموات والأرض } في البقرة وجعل هنا .
قال ابن عطية : لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض في البقرة وجعل هنا .
قال ابن عطية : لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض بخلق والظلمات والنور بجعل .
وقال الزمخشري { جعل } يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كقوله : { جعل الظلمات والنور } وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الله إناثاً } والفرق بين الخلق والجعل ، أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التصيير كإنشاء من شيء أو تصيير شيء شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان ، ومن ذلك { وجعل منها زوجها } { وجعل الظلمات والنور } لأن الظلمات من الأجرام المتكافئة والنور من النار { وجعلناكم أزواجاً } أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؛ انتهى .
وما ذكره من أن جعل بمعنى صير في قوله : { وجعلوا الملائكة } لا يصح لأنهم لم يصيروهم إناثاً ، وإنما قال بعض النحويين : إنها بمعنى سمى وقول الطبري { جعل } هنا هي التي تتصرف في طرف الكلام كما تقول : جعلت أفعل كذا فكأنه قال : وجعل إظلامها وإنارتها تخليط ، لأن تلك من أفعال المقاربة تدخل على المبتدأ والخبر وهذه التي في الآية تعدت إلى مفعول واحد ، فهما متباينان معنى واستعمالاً وناسب عطف الصلة الثانية بمتعلقها من جمع الظلمات وإفراد النور على الصلة الأولى المتعلقة بجمع السموات وإفراد الأرض ، وتقدّم في البقرة الكلام على جمع السموات وإفراد الأرض وجمع الظلمات وإفراد النور واختلف في المراد هنا ب { الظلمات والنور } فقال قتادة والسدّي والجمهور : الليل والنهار .
وقال ابن عباس : الشرك والنفاق والكفر والنور الإسلام والإيمان والنبوّة واليقين .
وقال الحسن : الكفر والإيمان ، وهو تلخيص قول ابن عباس واستدل لهذا بآية البقرة .
وقال قتادة أيضاً : الجنة والنار خلق الجنة وأرواح المؤمنين من نور ، والنار وأرواح الكافرين من ظلمة ، فيوم القيامة يحكم لأرواح المؤمنين بالجنة لأنهم من النور خلقوا ، وللكافرين بالنار لأنهم من الظلمة خلقوا .
وقيل : شهوات النفوس وأسرار القلوب .
وقال مجاهد : المراد حقيقة الظلمة والنور ، لأن الزنادقة كانت تقول : الله يخلق الضوء وكل شيء حسن ، وإبليس يخلق الظلمة وكل شيء قبيح فأنزلت رداً عليهم .
وقال أبو عبد الله الرازي : فيه قولان أحدهما : أنهما الأمران المحسوسان وهذا هو الحقيقة .
والثاني ما نقل عن ابن عباس والحسن قبل وهو مجاز .
وقال الواحدي : يحمل على الحقيقة والمجاز معاً لا يمكن حمله عليهما انتهى ملخصاً .
وقال أبو عبد الله الرازي : ليست الظلمة عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور ، والدليل عليه أنه إذا جلس اثنان بقرب السراج وآخر بالبعد منه ، فالبعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافياً مضيئاً والقريب لا يرى البعيد .
ويرى ذلك الهواء مظلماً ، فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية وإذا ثبت ذلك ، فنقول : عدم المحدثات متقدم على وجودها فالظلمة متقدمة في التحقيق على النور فوجب تقديمها عليه في اللفظ ، ومما يقوي ذلك ما روي في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره .
وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقي عليهم النور ، فمن أصابه يومئذ من ذلك النور اهتدى ومن أخطأ ضل » . انتهى .
وقال أبو عبد الله بن أبي الفضل : قوله في الظلمة خطأ بل هي عبارة عن كيفية وجودية .
مضادة للنور ، والدليل على ذلك قوله : { وجعل الظلمات والنور } والعدم لا يقال فيه جعل { ثم } كما تقرر في اللسان العربي أصلها للمهلة في الزمان .
وقال ابن عطية : { ثم } دالة على قبح فعل { الذين كفروا } لأن المعنى : أن خلقه { السموات والأرض } وغيرها قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ، ثم تشتمني أي : بعد وضوح هذا كله ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو ، لم يلزم التوبيخ كلزومه ب { ثم } انتهى .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما معنى ثم ؟ ( قلت ) : استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته وكذلك { ثم أنتم تمترون } استبعاد لأن تمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم ؛ انتهى .
وهذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أن { ثم } للتوبيخ ، والزمخشري من أن { ثم } للاستبعاد ليس بصحيح لأن { ثم } لم توضع لذلك ، وإنما التوبيخ أو الاستبعاد مفهوم من سياق الكلام لا من مدلول ، ثم ولا أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك بل { ثم } هنا للمهلة في الزمان وهي عاطفة جملة اسمية على جملة اسمية ، أخبر تعالى بأن الحمد له ونبه على العلة المقتضية للحمد من جميع الناس وهي خلق السموات والأرض والظلمات والنور ثم أخبر أن الكافرين به { يعدلون } فلا يحمدونه .
وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : علامَ عطف قوله : { ثم الذين كفروا } .
( قلت ) : إما على قوله : { الحمد لله } على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق ، لأنه ما خلقه إلا نعمة { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } فيكفرون نعمه وإما على قوله { خلق السموات والأرض } على معنى أنه خلق ما خلق ، مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه ؛ انتهى .
وهذا الوجه الثاني الذي جوزه لا يجوز ، لأنه إذ ذاك يكون معطوفاً على الصلة والمعطوف على الصلة صلة ، فلو جعلت الجملة من قوله : { ثم الذين كفروا } صلة لم يصح هذا التركيب لأنه ليس فيها رابط يربط الصلة بالموصول ، إلا إن خرج على قولهم أبو سعيد الذي رويت عن الخدري يريد رويت عنه فيكون الظاهر قد وقع موقع المضمر ، فكأنه قيل : { ثم الذين كفروا به يعدلون } وهذا من الندور ، بحيث لا يقاس عليه ولا يحمل كتاب الله عليه مع ترجيح حمله على التركيب الصحيح الفصيح ، { والذين كفروا } الظاهر فيه العموم فيندرج فيه عبدة الأصنام وأهل الكتاب ، عبدت النصارى المسيح واليهود عزيراً واتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله والمجوس عبدوا النار والمانوية عبدوا النور ، ومن خصص الذين كفروا بالمانوية كقتادة أو بعبدة الأصنام أو بالمجوس حيث قالوا : الموت من أهرمن والحياة من الله ، أو بأهل الكتاب كابن أبي أبزى فلا يظهر له دليل على التخصيص والباء في { بربهم } يحتمل أن تتعلق ب { يعدلون } وتكون الباء بمعنى عن أي : يعدلون عنه إلى غيره مما لا يخلق ولا يقدر ، أو يكون المعنى يعدلون به غيره أي : يسوون به غيره في اتخاذه رباً وإلهاً وفي الخلق والإيجاد وعدل الشيء بالشيء التسوية به ، وفي الآية رد على القدرية في قولهم : الخير من الله والشر من الإنسان فعدلوا به غيره في الخلق والإيجاد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.