البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأنعام

{ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } هذه السورة مكية كلها .

وقال الكسائي : إلا آيتين نزلتا بالمدينة وهما { قل من أنزل الكتاب } وما يرتبط بها .

وقال ابن عباس : نزلت ليلاً بمكة حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح ، إلا ست آيات قل : { تعالوا أتلُ } { وما قدروا الله } { ومن أظلم ممن افترى } .

{ ولو ترى إذ الظالمون } .

{ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون } .

{ والذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } ، انتهى .

وعنه أيضاً وعن مجاهد والكلبي إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة { قل تعالوا أتلُ } إلى قوله { لعلكم تتقون } وقال قتادة : إلا { وما قدروا الله حق قدره } { وهو الذي أنشأ } ، وذكر ابن العربي أن قوله { قل لا أجد } نزل بمكة يوم عرفة .

0

0

وتقدّم تفسير { الحمد لله } في أول الفاتحة وتفسير { خلق السموات والأرض } في قوله :

{ إن في خلق السموات والأرض } في البقرة وجعل هنا .

قال ابن عطية : لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض في البقرة وجعل هنا .

قال ابن عطية : لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض بخلق والظلمات والنور بجعل .

وقال الزمخشري { جعل } يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كقوله : { جعل الظلمات والنور } وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الله إناثاً } والفرق بين الخلق والجعل ، أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التصيير كإنشاء من شيء أو تصيير شيء شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان ، ومن ذلك { وجعل منها زوجها } { وجعل الظلمات والنور } لأن الظلمات من الأجرام المتكافئة والنور من النار { وجعلناكم أزواجاً } أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؛ انتهى .

وما ذكره من أن جعل بمعنى صير في قوله : { وجعلوا الملائكة } لا يصح لأنهم لم يصيروهم إناثاً ، وإنما قال بعض النحويين : إنها بمعنى سمى وقول الطبري { جعل } هنا هي التي تتصرف في طرف الكلام كما تقول : جعلت أفعل كذا فكأنه قال : وجعل إظلامها وإنارتها تخليط ، لأن تلك من أفعال المقاربة تدخل على المبتدأ والخبر وهذه التي في الآية تعدت إلى مفعول واحد ، فهما متباينان معنى واستعمالاً وناسب عطف الصلة الثانية بمتعلقها من جمع الظلمات وإفراد النور على الصلة الأولى المتعلقة بجمع السموات وإفراد الأرض ، وتقدّم في البقرة الكلام على جمع السموات وإفراد الأرض وجمع الظلمات وإفراد النور واختلف في المراد هنا ب { الظلمات والنور } فقال قتادة والسدّي والجمهور : الليل والنهار .

وقال ابن عباس : الشرك والنفاق والكفر والنور الإسلام والإيمان والنبوّة واليقين .

وقال الحسن : الكفر والإيمان ، وهو تلخيص قول ابن عباس واستدل لهذا بآية البقرة .

وقال قتادة أيضاً : الجنة والنار خلق الجنة وأرواح المؤمنين من نور ، والنار وأرواح الكافرين من ظلمة ، فيوم القيامة يحكم لأرواح المؤمنين بالجنة لأنهم من النور خلقوا ، وللكافرين بالنار لأنهم من الظلمة خلقوا .

وقيل : الأجساد والأرواح .

وقيل : شهوات النفوس وأسرار القلوب .

وقيل : الجهل والعلم .

وقال مجاهد : المراد حقيقة الظلمة والنور ، لأن الزنادقة كانت تقول : الله يخلق الضوء وكل شيء حسن ، وإبليس يخلق الظلمة وكل شيء قبيح فأنزلت رداً عليهم .

وقال أبو عبد الله الرازي : فيه قولان أحدهما : أنهما الأمران المحسوسان وهذا هو الحقيقة .

والثاني ما نقل عن ابن عباس والحسن قبل وهو مجاز .

وقال الواحدي : يحمل على الحقيقة والمجاز معاً لا يمكن حمله عليهما انتهى ملخصاً .

وقال أبو عبد الله الرازي : ليست الظلمة عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور ، والدليل عليه أنه إذا جلس اثنان بقرب السراج وآخر بالبعد منه ، فالبعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافياً مضيئاً والقريب لا يرى البعيد .

ويرى ذلك الهواء مظلماً ، فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية وإذا ثبت ذلك ، فنقول : عدم المحدثات متقدم على وجودها فالظلمة متقدمة في التحقيق على النور فوجب تقديمها عليه في اللفظ ، ومما يقوي ذلك ما روي في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره .

وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقي عليهم النور ، فمن أصابه يومئذ من ذلك النور اهتدى ومن أخطأ ضل » . انتهى .

وقال أبو عبد الله بن أبي الفضل : قوله في الظلمة خطأ بل هي عبارة عن كيفية وجودية .

مضادة للنور ، والدليل على ذلك قوله : { وجعل الظلمات والنور } والعدم لا يقال فيه جعل { ثم } كما تقرر في اللسان العربي أصلها للمهلة في الزمان .

وقال ابن عطية : { ثم } دالة على قبح فعل { الذين كفروا } لأن المعنى : أن خلقه { السموات والأرض } وغيرها قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ، ثم تشتمني أي : بعد وضوح هذا كله ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو ، لم يلزم التوبيخ كلزومه ب { ثم } انتهى .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما معنى ثم ؟ ( قلت ) : استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته وكذلك { ثم أنتم تمترون } استبعاد لأن تمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم ؛ انتهى .

وهذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أن { ثم } للتوبيخ ، والزمخشري من أن { ثم } للاستبعاد ليس بصحيح لأن { ثم } لم توضع لذلك ، وإنما التوبيخ أو الاستبعاد مفهوم من سياق الكلام لا من مدلول ، ثم ولا أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك بل { ثم } هنا للمهلة في الزمان وهي عاطفة جملة اسمية على جملة اسمية ، أخبر تعالى بأن الحمد له ونبه على العلة المقتضية للحمد من جميع الناس وهي خلق السموات والأرض والظلمات والنور ثم أخبر أن الكافرين به { يعدلون } فلا يحمدونه .

وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : علامَ عطف قوله : { ثم الذين كفروا } .

( قلت ) : إما على قوله : { الحمد لله } على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق ، لأنه ما خلقه إلا نعمة { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } فيكفرون نعمه وإما على قوله { خلق السموات والأرض } على معنى أنه خلق ما خلق ، مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه ؛ انتهى .

وهذا الوجه الثاني الذي جوزه لا يجوز ، لأنه إذ ذاك يكون معطوفاً على الصلة والمعطوف على الصلة صلة ، فلو جعلت الجملة من قوله : { ثم الذين كفروا } صلة لم يصح هذا التركيب لأنه ليس فيها رابط يربط الصلة بالموصول ، إلا إن خرج على قولهم أبو سعيد الذي رويت عن الخدري يريد رويت عنه فيكون الظاهر قد وقع موقع المضمر ، فكأنه قيل : { ثم الذين كفروا به يعدلون } وهذا من الندور ، بحيث لا يقاس عليه ولا يحمل كتاب الله عليه مع ترجيح حمله على التركيب الصحيح الفصيح ، { والذين كفروا } الظاهر فيه العموم فيندرج فيه عبدة الأصنام وأهل الكتاب ، عبدت النصارى المسيح واليهود عزيراً واتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله والمجوس عبدوا النار والمانوية عبدوا النور ، ومن خصص الذين كفروا بالمانوية كقتادة أو بعبدة الأصنام أو بالمجوس حيث قالوا : الموت من أهرمن والحياة من الله ، أو بأهل الكتاب كابن أبي أبزى فلا يظهر له دليل على التخصيص والباء في { بربهم } يحتمل أن تتعلق ب { يعدلون } وتكون الباء بمعنى عن أي : يعدلون عنه إلى غيره مما لا يخلق ولا يقدر ، أو يكون المعنى يعدلون به غيره أي : يسوون به غيره في اتخاذه رباً وإلهاً وفي الخلق والإيجاد وعدل الشيء بالشيء التسوية به ، وفي الآية رد على القدرية في قولهم : الخير من الله والشر من الإنسان فعدلوا به غيره في الخلق والإيجاد .