البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡهِم مِّدۡرَارٗا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَٰرَ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ} (6)

القرن الأمة المقترنة في مدّة من الزمان ، ومنه خير القرون قرني وأصله الارتفاع عن الشيء ومنه قرن الجبل ، فسموا بذلك لارتفاع السنّ .

وقيل : هو من قرنت الشيء بالشيء جعلته بجانبه أو مواجهاً له ، فسموا بذلك لكون بعضهم يقرن ببعض .

وقيل : سموا بذلك لأنهم جمعهم زمان له مقدار هو أكثر ما يقرن فيه أهل ذلك الزمان ، وهو اختيار الزجاج ومدة القرن مائة وعشرون سنة قاله : زرارة بن أوفى وإياس بن معاوية ، أو مائة سنة قاله الجمهور ، وقد احتجوا لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن بشر : « تعيش قرناً فعاش مائة وقال : أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد » .

قال ابن عمر : يؤيد أنها انخرام ذلك القرن أو ثمانون سنة رواه أبو صالح عن ابن عباس ، أو سبعون سنة حكاه الفرّاء أو ستون سنة لقوله عليه السلام : معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين أو أربعون قاله ابن سيرين ، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكذا حكاه الزهراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ثلاثون .

روي عن أبي عبيدة أنه قال : يرون أن ما بين القرنين ثلاثون ، وحكاه النقاش أو عشرون حكاه الحسن البصري أو ثمانية عشر عاماً أو المقدار الوسط في أعمار أهل ذلك الزمان وهذا حسن ، لأن الأمم السالفة كان فيهم من يعيش أربعمائة عام وثلثمائة وما بقي عام وما فوق ذلك وما دونه ، وهكذا الاختلاف الإسلامي والله أعلم .

كأنه نظر إلى الطرف الأقصى والطرف الأدنى ، فمن نظر إلى الغاية قال : من الستين فما فوقها إلى مائة وعشرين ومن نظر إلى الأدنى قال : عشرون وثلاثون وأربعون .

وقال ابن عطية : القرن أن يكون وفاة الأشياخ ثم ولادة الأطفال ، ويظهر ذلك من قوله : { وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } وهذه يشير ابن عطية إلى من حدد بأربعين فما دونها طبقات وليست بقرون .

وقيل : القرن القوم المجتمعون ، قلت : السنون أو كثرت لقوله : خير القرون قرني يعني أصحابه وقال قس :

في الذاهبين الأوّلين *** من القرن لنا بصائر

وقال آخر :

إذا ذهب القوم الذي كنت فيهم *** وخلفت في قوم فأنت غريب

وقيل : القرن الزمان نفسه فيقدر قوله { من قرن } من أهل قرن .

التمكن ضد التعذر والتمكين من الشيء ما يصح به الفعل من الآيات والقوي وهو أتم من الأقدار ، لأن الأقدار إعطاء القدرة خاصة والقادر على الشيء قد يتعذر عليه الفعل لعدم الآلة .

وقيل : التمكين من الشيء إزالة الحائل بين المتمكن والممكن منه .

وقال الزمخشري : مكن له في الأرض جعل له مكاناً ونحوه أرض له ، وتمكينه في الأرض إثباته فيها .

المدرار المتتابع يقال : مطر مدرار وعطاء مدرار وهو في المطر أكثر ، ومدرار مفعال من الدر للمبالغة كمذكار ومئناث ومهذار للكثير ذلك منه .

الإنشاء : الخلق والإحداث من غير سبب ، وكل من ابتدأ شيئاً فقد أنشأه ، والنشأ الاحداث واحدهم ناشىء كقولك : خادم وخدم .

{ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } لما هددهم وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم ، أتبع ذلك بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة ، وحض على الاعتبار بالقرون الماضية و { يروا } هنا بمعنى يعلموا ، لأنهم لم يبصروا هلاك القرون السالفة و { كم } في موضع المفعول ب { أَهْلَكْنَا } و { يروا } معلقة والجملة في موضع مفعولها ، و { من } الأولى لابتداء الغاية و { من } الثانية للتبعيض ، والمفرد بعدها واقع موقع الجمع ووهم الحوفي في جعله { من } الثانية بدلاً من الأولى وظاهر الإهلاك أنه حقيقة ، كما أهلك قوم نوح وعاداً وثمود غيرهم ويحتمل أن يكون معنوياً بالمسخ قردة وخنازير ، والضمير في { يروا } عائد على من سبق من المكذبين المستهزئين و { لكم } خطاب لهم فهو التفات ، والمعنى أن القرون المهلكة أعطوا من البسطة في الدنيا والسعة في الأموال ما لم يعط هؤلاء الذين حضوا على الاعتبار بالأمم السالفة وما جرى لهم ، وفي هذا الالتفات تعريض بقلة تمكين هؤلاء ونقصهم عن أحوال من سبق ، ومع تمكين أولئك في الأرض فقد حل بهم الهلاك ، فكيف لا يحل بكم على قلتكم وضيق خطتكم ؟ فالهلاك إليكم أسرع من الهلاك إليهم .

وقال ابن عطية : والمخاطبة في { لكم } هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم وسائر الناس كافة ، كأنه قال : { ما لم نمكن } يا أهل هذا العصر لكم ويحتمل أن يقدر معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال { يا محمد قل لهم ألم يروا كم أهلكنا } الآية .

وإذا أخبرت أنك قلت لو قيل له أو أمرت أن يقال له فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها ، فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ ذكر غائب دون مخاطبة ، انتهى .

فتقول : قلت لزيد ما أكرمك وقلت لزيد ما أكرمه ، والضمير في { مكناهم } عائد على { كم } مراعاة لمعناها ، لأن معناها جمع والمراد بها الأمم ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يعود على { قرن } وذلك ضعيف لأن { من قرن } تمييز { لكم } فكم هي المحدث عنها بالإهلاك فتكون هي المحدث عنها بالتمكين ، فما بعده إذ { من قرن } جرى مجرى التبيين ولم يحدث عنه ، وأجاز أبو البقاء أن يكون { كم } هنا ظرفاً وأن يكون مصدراً ، أي : كم أزمنة أهلكنا ؟ أو كم إهلاكاً أهلكنا ؟ ومفعول { أهلكنا من قرن } على زيادة من وهذا الذي أجازه لا يجوز ، لأنه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع بل تدل على المفرد ، لو قلت : كم أزماناً ضربت رجلاً أو كم مرة ضربت رجلاً ؟ لم يكن مدلوله مدلول رجال ، لأن السؤال إنما هو عن عدد الأزمان أو المرات التي ضرب فيها رجل ، ولأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة { من } لأنها لا تزاد إلا في الاستفهام المحض أو الاستفهام المراد به النفي ، والاستفهام هنا ليس محضاً ولا يراد به النفي والظاهر أن قوله { مكناهم } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ما كان من حالهم ؟ فقيل : { مكناهم في الأرض } .

وقال أبو البقاء : { مكناهم } في موضع خبر صفة { قرن } وجمع على المعنى وما قاله أبو البقاء ممكن ، { وما } في قوله : { ما لم نمكن لكم } جوزوا في إعرابها أن تكون بمعنى الذي ويكون التقدير التمكين ، الذي { لم نمكن لكم } فحذف المنعوت وأقيم النعت مقامه ، ويكون الضمير العائد على { ما } محذوفاً أي ما لم نمكنه لكم وهذا لا يجوز ، لأن { ما } بمعنى الذي لا يكون نعتاً للمعارف وإن كان مدلولها مدلول الذي ، بل لفظ الذي هو الذي يكون نعتاً للمعارف لو قلت ضربت الضرب ما ضرب زيد تريد الذي ضرب زيد لم يجز ، فلو قلت : الضرب الذي ضربه زيد جاز وجوزوا أيضاً أن يكون نكرة صفة لمصدر محذوف تقديره تمكيناً لم نمكنه لكم ، وهذا أيضاً لا يجوز لأن { ما } النكرة الصفة لا يجوز حذف موصوفها ، لو قلت : قمت ما أو ضربت ما وأنت تريد قمت قياماً ما وضربت ضرباً ما لم يجز ، وهذان الوجهان أجازهما الحوفي وأجاز أبو البقاء أن يكون { ما } مفعولاً به بنمكن على المعنى ، لأن المعنى أعطيناهم ما لم نعطكم ، وهذا الذي أجازه تضمين والتضمين لا ينقاس ، وأجاز أيضاً أن تكون { ما } مصدرية والزمان محذوف أي مدة { ما لم نمكن لكم } ويعني مدة انتفاء التمكين لكم ، وأجاز أيضاً أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها أي شيئاً لم نمكنه لكم ، وحذف العائد من الصفة على الموصوف وهذا أقرب إلى الصواب وتعدى مكن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر ، والأكثر تعديته باللام { مكنا ليوسف في الأرض } { إنا مكنا له في الأرض } أو لم نمكن لهم .

وقال أبو عبيد مكناهم ومكنا لهم لغتان فصيحتان ، كنصحته ونصحت له والإرسال والإنزال متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من رسل اللبن ، وهو ما ينزل من الضرع متتابعاً و { السماء } السماء المظلة قالوا : لأن المطر ينزل منها إلى السحاب ، ويكون على حذف مضاف أي مطر { السماء } ويكون { مدراراً } حالاً من ذلك المضاف المحذوف .

وقيل : { السماء } المطر وفي الحديث : « في أثر سماء كانت من الليل » ، وتقول العرب : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم ، يريدون المطر وقال الشاعر :

إذا نزل السماء بأرض قوم *** رغيناه وإن كانوا غضبانا

{ ومدراراً } على هذا حال من نفس { السماء } .

وقيل : { السماء } هنا السحاب ويوصف بالمدرار ، فمدراراً حال منه { ومدراراً } يوصف به المذكر والمؤنث وهو للمبالغة في اتصال المطر ودوامة وقت الحاجة ، لا إنها ترفع ليلاً ونهاراً فتفسد قاله ابن الأنباري .

ولأن هذه الأوصاف إنما ذكرت لتعديد النعم عليهم ومقابلتها بالعصيان ، { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } تقدّم ذكر كيفية جريان الأنهار من التحت في أوائل البقرة .

وقد أعرب من فسر { الأنهار } هنا بالخيل كما قيل في قوله : { وهذه الأنهار تجري من تحتي } وإذا كان الفرس سريع العدو واسع الخطو وصف بالبحر وبالنهر ، والمعنى أنه تعالى مكنهم التمكين البالغ ووسع عليهم الرزق فذكر سببه وهو تتابع الأمطار على قدر حاجاتهم وإمساك الأرض ذلك الماء ، حتى صارت الأنهار تجري من تحتهم فكثر الخصب فأذنبوا فأهلكوا بذنوبهم ، والظاهر أن الذنوب هنا هي كفرهم وتكذيبهم برسل الله وآياته ، والإهلاك هنا لا يراد به مجرد الإفناء والإماتة بل المراد الإهلاك الناشىء عن الذنوب والأخذ به كقوله تعالى : { فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا } لأن الإهلاك بمعنى الإماتة مشترك فيه الصالح والطالح ، وفائدة ذكر إنشاء قرن { آخرين } بعدهم ، إظهار القدرة التامّة على إفناء ناس وإنشاء ناس فهو تعالى لا يتعاظمه أن يهلك { قرناً } ويخرب بلاده وينشىء مكانه آخر يعمر بلاده وفيه تعريض للمخاطبين ، بإهلاكهم إذا عصوا كما أهلك من قبلهم ووصف قرناً بِ { آخرين } وهو جمع حملاً على معنى قرن ، وكان الحمل على المعنى أفصح لأنها فاصلة رأس آية .