البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

الانسلاخ : التعري من الشيء حتى لا يعلق به منه شيء ومنه شيء ومنه انسلخت الحية من جلدها .

{ واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } أي { واتلُ } على من كان حاضراً من كفار اليهود وغيرهم ولما كان تعالى قد ذكر أخذ الميثاق على توحيده تعالى وتقرير ربوبيته وذكر إقرارهم بذلك وإشهادهم على أنفسهم ذكر حال من آمن به ، ثم بعد ذلك كفر كحال اليهود كانوا مقرين منتظرين بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطلعوا عليه من كتب الله المنزلة وتبشيرها به ، وذكر صفاته فلما بعث كفروا به فذكروا أن ما صدر منهم هو طريقة لأسلافهم اتبعوها واختلف المفسرون في هذا الذي آتاه الله آياته { فانسلخ منها } فقال عكرمة : هو كل من انسلخ من الحق بعد أن أعطيه من اليهود والنصارى والحنفاء ، وقال عبادة بن الصامت : هم قريش أتتهم أوامر الله ونواهيه والمعجزات فانسلخوا من الآيات ولم يقبلوها فعلى هذين القولين يكون { الذي } مفرداً أريد به الجمع ، وقال الجمهور : هو شخص معين ، فقيل : هو بلعم ، وقيل : هو بلعام وهو رجل من الكنعانيين أوتي بعض كتب الله ، وقيل : كان يعلم اسم الله الأعظم واختلف في اسم أبيه .

وقال ابن مسعود : هو أبره .

وقال ابن عباس باعوراء ، وقال مجاهد والسدّي : باعرويه روى أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى وقال : كيف أدعو على من معه الملائكة فألحوا عليه حتى فعل وقد طول المفسرون في قصته وذكروا ما الله أعلم به ، وقيل هو رجل من علماء بني إسرائيل ، وقال ابن مسعود : بعثه موسى عليه السلام نحو مدين داعياً إلى الله وإلى شريعته وعلم من آيات الله ما يدعونه فكان مجاب الدعوة فلما فارق دين موسى سلخ الله منه الآيات ، وقيل : اسمه ناعم كان في زمن موسى وكان بحبت اسم بلد كان إذا نظر رأى العرش وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين يكتبون عنه وهو أوّل من صنف كتاباً إنه ليس للعالم صانع ، وقيل هو رجل من بني إسرائيل أعطى ثلاث دعوات مستجابة يدعو بها في مصالح العباد فجعلها كلها لامرأته وكانت قبيحة فسألته فدعا الله فجعلها جميلة فمالت إلى غيره فدعا الله عليها فصارت كلبة نباحة وكان لها منها بنون فتضرّعوا إليه فدعا الله فصارت إلى حالتها الأولى

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وابن المسيّب وزيد بن أسلم وأبو روق : وهو أميّة بن أبي الصلت الثقفي قرأ الكتب وعلم أنه سيبعث نبي من العرب ورجا أن يكون إياه وكان ينظم الشعر في الحكم والأمثال فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حسده ووفد على بعض الملوك وروي أنه جاء يريد الإسلام فوصل إلى بدر بعد الوقعة بيوم أو نحوه فقال من قتل هؤلاء فقيل : محمد فقال : لا حاجة لي بدين من قتل هؤلاء فارتد ورجع وقال : الآن حلت لي الخمر وكان قد حرم الخمر على نفسه فلحق بقوم من ملوك حمير فنادمهم حتى مات وقدّمت أخته فارعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنشدها من شعره فأنشدته عدّة قصائد فقال صلى الله عليه وسلم : « آمن شعره وكفر قلبه وهو الذي قال فيه تعالى { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها } .

» وقال سعيد بن المسيب أيضاً : هو أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم : الفاسق وكان ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح وهو الذي بني له المنافقون مسجد الضرار جرت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم محاورة فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريداً وحيداً وأرسل إلى المنافقين أنِ استعدوا بالقوة والسلاح ثم أتى قيصر واستجاشه ليخرج محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة فمات بالشام طريداً شريداً وحيداً ، وقيل : غير هذا والأولى في مثل هذا إذا ورد عن المفسرين أن تحمل أقاويلهم على التمثيل لا على الحصر في معين فإنه يؤدي إلى الاضطراب والتناقض والخلاف في { آتيناه آياتنا } مترتب على من عنى الذي آتيناه أذلك اسم الله الأعظم أو الآيات من كتب الله أو حجج التوحيد أو من آيات موسى أو العلم بمجيء الرسول والانسلاخ من الآيات مبالغة في التبري منها والبعد أي لم يعمل بما اقتضته نعمتنا عليه من إتيانه آياتنا جعل كأنه كان ملتبساً بها كالثوب فانسلخ منها وهذا من إجراء المعنى مجرى الجزم وقول من قال : إنه من المقلوب أي إلا انسلخت الآيات عنه لا ضرورة تدعو إليه ، وقال سفيان : إن الرجل ليذنب ذنباً فينسى باباً من العلم .

وقرأ الجمهور : { فأتبعه الشيطان } من أتبع رباعياً أي لحقه وصار معه وهي مبالغة في حقه إذ جعل كأنه هو إمام للشيطان يتبعه وكذلك { فأتبعه شهاب ثاقب } أي عدا وراءه ، قال القتبي تبعه من خلفه واتبعه أدركه ولحقه كقوله : { فاتبعوهم مشرقين } أي أدركوهم فعلى هذا يكون متعدياً إلى واحد وقد يكون اتبع متعدّياً إلى اثنين كما قال تعالى : وأتبعناهم ذرّياتهم بإيمان فيقدر هذا { فأتبعه الشيطان } خطواته أي جعله الشيطان يتبع خطواته فتكون الهمزة فيه للتعدي إذ أصله تبع هو خطوات الشيطان ، وقرأ طلحة بخلاف والحسن فيما روى عنه هارون { فاتبعه } مشدّداً بمعنى تبعه ، قال صاحب كتاب اللوامح : بينهما فرق وهو أن تبعه إذا مشى في أثره واتبعه إذا واراه مشياً فأما { فأتبعه } بقطع الهمزة فمما يتعدّى إلى مفعولين لأنه منقول من تبعه وقد حذف في العامة أحد المفعولين ، وقيل فأتبعه بمعنى استتبعه أي جعله له تابعاً فصار له مطيعاً سامعاً ، وقيل معناه : تبعه شياطين الإنس أهل الكفر والضلال ، { فكان من الغاوين } يحتمل أن تكون { كان } باقية الدلالة على مضمون الجملة واقعاً في الزمان الماضي ويحتمل أن تكون كان بمعنى صار أي صار من الضالين الكافرين ، قال مقاتل : من الضالين ، وقال الزجاج : من الهالكين الفاسدين .