البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّـٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ} (176)

الكلب حيوان معروف ويجمع في القلة على أكلب وفي الكثرة على كلام وشذوا في هذا الجمع فجمعوه بالألف والتاء فقالوا كلابات ، وتقدّمت هذه المادة في { مكلبين } وكرّرناها لزيادة فائدة ، لهث الكلب يلهث بفتح الهاءين ماضياً ومضارعاً والمصدر لهثاً ولهثاً بالضم أخرج لسانه وهي حالة له في التعب والراحة والعطش والريّ بخلاف غيره من الحيوان فإنه لا يلهث إلا من إعياء وعطش ،

{ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه } .

أي ولو أردنا أن نشرفه ونرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعلنا { ولكنه أخلد إلى الأرض } أي ترامى إلى شهوات الدنيا ورغب فيها واتبع ما هو ناشىء عن الهوى وجاء الاستدراك هنا تنبيهاً على السبب الذي لأجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره ممن أوتي الهدى فآثره وأتبعه و { أخلد } معناه رمى بنفسه إلى الأرض أي إلى ما فيها من الملاذ والشهوات قال معناه ابن عباس ومجاهد والسدّي ، ويحتمل أن يريد بقوله { أخلد إلى الأرض } أي مال إلى السفاهة والرذالة كما يقال : فلان في الحضيض عبارة عن انحطاط قدره بانسلاخه من الآيات قال معناه الكرماني .

قال أبو روق : غلب على عقله هواه فاختار دنياه على آخرته ، وقال قوم : معناه لرفعناه بها لأخذناه كما تقول رفع الظالم إذا هلك والضمير في { بها } عائد على المعصية في الانسلاخ وابتدىء وصف حاله بقوله { ولكنه أخلد } ، وقال ابن أبي نجيح { لرفعناه } لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها والضمير للآيات ثم ابتدىء وصف حاله والتفسير الأول أظهر وهو مرويّ عن ابن عباس وجماعة ولم يذكر الزمخشري غيره وهو الذي يقتضيه الاستدراك لأنه على قول الإهلاك بالمعصية أو التوفي قبل الوقوع فيها لا يصحّ معنى الاستدراك والضمير في { لرفعناه } في هذه الأقوال عائد على الذي أوتي الآيات وإن اختلفوا في الضمير في { بها } على ما يعود وقال قوم الضمير في { لرفعناه } على الكفر المفهوم مما سبق وفي { بها } عائد على الآيات أي ولو شئنا لرفعنا الكفر بالآيات وهذا المعنى روي عن مجاهد وفيه بعد وتكلّف .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع ؟ ( قلت ) : المعنى ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل ولو لزمها لرفعناه بها ألا ترى إلى قوله ولكنه { أخلد إلى الأرض } فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون { ولو شئنا } في معنى ما هو فعله ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال : { ولو شئنا لرفعناه } ولكنا لم نشأ انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .

{ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } أي فصفته { إن تحمل عليه } الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يحملها كصفة الكلب إن كان مطروداً لهث وإن كان رابضاً لهث قاله ابن عباس ، وقيل : شبه المتهالك على الدنيا في قلقه واضطرابه على تحصيلها ولزومه ذلك بالكلب في حالته هذه التي هي ملازمة له حالة تهييجه وتركه وهي كونه لا يزال لا هنا وهي أخس أحواله وأرذلها كما أن المتهالك على الدنيا لا يزال تعباً قلقاً في تحصيلها قال الحسن هو مثل المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أو لم يدع أعطي أو لم يعط كالكلب يلهث طرداً وتركاً انتهى ، وفي كتاب الحيوان دلت الآية على أن الكلب أخس الحيوان وأذله لضرب الخسة في المثل به في أخسّ أحواله ولو كان في جنس الحيوان ما هو أخس من الكلب ما ضرب المثل إلا به ، قال ابن عطية : وقال الجمهور إنما شبه في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتى الآيات ثم أوتيها أيضاً ضالاً لم تنفعه فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه أو تركه دون حمل عليه ، وقال السدّي وغيره هذا الرجل خرج لسانه على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب ، وقال الزمخشري : وكان حق الكلام أن يقال { ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض } فحططناه ووضعنا منزلته فوقع قوله : { فمثله كمثل الكلب } موقع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخسّ أحواله وأرذلها في معنى ذلك انتهى وفي قوله وكان حق الكلام إلى آخره سوء أدب على كلام الله تعالى وأما قوله فوقع قوله { فمثله } إلى آخره فليس واقعاً موقع ما ذكر لكن قوله { ولكنه أخلد إلى الأرض } وقع موقع فحططناه إلا أنه لما ذكر الإحسان إليه أسند ذلك إلى ذاته الشريفة فقال { آتيناه آياتنا ولو شئنا لرفعناه بها } ولما ذكر ما هو في حق الشخص إساءة أسنده إليه فقال { فانسلخ منها } وقال : { ولكنه أخلد إلى الأرض } والله تعالى في الحقيقة هو الذي سلخه من الآيات وأخلده إلى الأرض فجاء على حد قوله

{ فأردت أن أعيبها } وقوله : { فأراد ربك أن يبلغا } في نسبة ما كان حسناً إلى الله ونسبة ما كان بخلافه إلى الشخص وهذه الجملة الشرطية في موضع الحال أي لاهثاً في الحالتين قاله الزمخشري وأبو البقاء .

وقال بعض شراح كتاب المصباح : وأما الشرطية فلا تكاد تقع بتمامها موضع الحال فلا يقال جاءني زيد إن يسأل يعظ على الحال بل لو أريد ذلك لجعلت الجملة الشرطية خبراً عن ضمير ما أريد الحال عنه نحو جاء زيد هو وإن يسأل يعط فيكون الواقع موقع الحال هو الجملة الإسمية لا الشرطية ، نعم قد أوقعوا الجمل المصدرة بحرف الشرط موقع الحال ولكن بعد ما أخرجوها عن حقيقة الشرط وتلك الجملة لم تخلُ من أن يُعطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف والأول ترك الواو مستمرّ فيه نحو أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني إذ لا يخفى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط بل يتحولان إلى معنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } وأما الثاني فلا بدّ من الواو نحو أتيتك وإن لم تأتني ولو ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة انتهى فقوله { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } من قبيل الأول لأن الحمل عليه والترك نقيضان .

{ ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } أي ذلك الوصف وصف { الذين كذبوا بآياتنا } صفته كصفة الكلب لاهثاً في الحالتين فكما شبّه وصف المؤتى الآيات المنسلخ منها بالكلب في أخسّ حالاته كذلك شبّه به المكذبون بالآيات حيث أوتوها وجاءتهم واضحات تقتضي التصديق بها فقابلوها بالتكذيب وانسلخوا منها واحتمل { ذلك } أن يكون إشارة لمثل المنسلخ وأن يكون إشارة لوصف الكلب واحتمل أن تكون أداة التشبيه محذوفة من ذلك أي صفة ذلك صفة الذين كذبوا واحتمل أن تكون محذوفة من { مثل القوم } أي ذلك الوصف وصف المنسلخ أو وصف الكلب كمثل { الذين كذبوا بآياتنا } ويكون أبلغ في ذمّ المكذبين حيث جعلوا أصلاً وشبه بهم ، قال ابن عطية : أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالّين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالهم ولم ينتفعوا بذلك فمثلهم كمثل الكلب ، وقال الزمخشري : { كذبوا بآياتنا } من اليهود بعدما قرؤوا بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به ، وقال ابن عباس : يريد كفار مكة لأنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم وداعياً يدعوهم إلى طاعة الله ثم جاءهم من لا يشك في صدقه وديانته ونبوته فكذبوه فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال مثل الكلب الذي يلهث على كل حال انتهى ، وتلخص أهؤلاء القوم المكذبون بالآيات عامّ أم خاص باليهود أم بكفار مكة أقوال ثلاثة والأظهر العموم .

{ فاقصص القصص لعلهم يتفكّرون } .

أي فاسرد أخبار القرون الماضية كخبر بلعام أو من فسّر به المنسلخ إذ هو من القصص الذي لا يعلمه إلا من درس الكتب إذ هو من خفي أخبارهم ففي إخبارك بذلك أعظم معجز { لعلهم يتفكرون } فيما جرى على المكذبين فيكون ذلك عبرة لهم ورادعاً عن التكذيب وأن يكونوا أخباراً شنيعة تقصّ كما قصّ خبر ذلك المنسلخ .