البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَا لَهُمۡ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمۡ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَمَا كَانُوٓاْ أَوۡلِيَآءَهُۥٓۚ إِنۡ أَوۡلِيَآؤُهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (34)

{ وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون } .

الظاهر أن { ما } استفهامية أي أيّ شيء لهم في انتفاء العذاب وهو استفهام معناه التقرير أي كيف لا يعذبون وهم متّصفون بهذه الحالة المتقضية للعذاب وهي صدّهم المؤمنين عن المسجد الحرام وليسوا بولاة البيت ولا متأهّلين لولايته ومن صدّهم ما فعلوا بالرسول صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وإخراجه مع المؤمنين داخل في الصدّ كانوا يقولون نحن ولاة البيت نصدّ من نشاء وندخل من نشاء { وأنْ } مصدرية ، وقال الأخفش : هي زائدة ، قال النّحّاس : لو كان كما قال لرفع تعذيبهم انتهى ، فكان يكون الفعل في موضع الحال كقوله : { وما لنا لا نؤمن بالله } وموضع إن نصب أو جر على الخلاف إذ حذف منه اني وهي تتعلق بما تعلّق به { لهم } أي أيّ شيء كائن أو مستقرّ لهم في أن لا يعذبهم الله والمعنى لا حظ لهم في انتفاء العذاب وإذا انتفى ذلك فهم معذبون ولا بدّ وتقدير الطبري وما يمنعهم من أن يعذبوا هو تفسير معنى لا تفسير إعراب وكذلك ينبغي أن يتأوّل كلام ابن عطية أنّ التقدير وما قدرتهم ونحوه من الأفعال موجب أن يكون في موضع نصب والظاهر عود الضمير في أولياءه على { المسجد } لقربه وصحّة المعنى ، وقيل { ما } للنفي فيكون إخباراً أي وليس لهم أن لا يعذبهم الله أي ليس ينتفي العذاب عنم مع تلبّسهم بهذه الحال ، وقيل الضمير في { أولياءه } عائد على الله تعالى ، وروي عن الحسن والظاهر أن قوله { وما كانوا أولياءه } استئناف إخبار أي وما استحقوا أن يكونوا ولاة أمره { إن أولياؤه إلا المتقون } أي المتقون للشرك وقال الزمخشري : { إلا المتقون } من المسلمين ليس كل مسلم أيضاً ممن يصلح أن يلي أمره إنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً فكيف عبدة الأصنام انتهى ؟ ويجوز أن يكون { وما كانوا أولياءه } معطوفاً على { وهم يصدّون } فيكون حالاً والمعنى كيف لا يعذبهم الله وهم متّصفون بهذين الوصفين صدّهم عن المسجد الحرام وانتفاء كونهم أولياءه أو أولياءه أي أولياء المسجد أي ليسوا ولاته فلا ينبغي أن يصدّوا عنه أو أولياء الله فهو كفار فيكون قد ارتقى من حال إلى أعظم منها وهو كونهم ليسوا مؤمنين فمن كان صادّاً عن المسجد كافراً بالله فهو حقيق بالتعذيب والضمير في أنّ { أولياؤه } مترتب على ما يعود عليه في قوله : { وما كانوا أولياءه } واختلفوا في هذا التعذيب فقال قوم : هو الأول إلا أنه كان امتنع بشيئين كون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم واستغفار من بينهم من المؤمنين فلما وقع التمييز بالهجرة وقع بالباقين يوم بدر ، وقيل : بل وقع بفتح مكة ، وقال قوم : هذا التعذيب غير ذلك فالأوّل : استئصال كلهم فلم يقع لما علم من إسلام بعضهم وإسلام بعض ذراريهم ، والثاني : قتل بعضهم يوم بدر ، وقال ابن عباس : الأوّل عذاب الدنيا ، والثاني : عذاب الآخرة ، فالمعنى وما كان الله معذب المشركين لاستغفارهم في الدنيا وما لهم أن لا يعذبهم الله في الآخرة ومتعلّق { لا يعلمون } محذوف تقديره { لا يعلمون } أنهم ليسوا أولياءه بل يظنون أنهم أولياؤه والظاهر استدراك الأكثر في انتفاء العلم إذ كان بينهم وفي خلالهم من جنح إلى الإيمان فكان يعلم أن أولئك الصادّين ليسوا أولياء البيت أو أولياء الله فكأنه قيل { ولكن أكثرهم } أي أكثر المقيمين بمكة { لا يعلمون } لتخرج منهم العباس وأم الفضل وغيرهما ممن وقع له علم أو إذ كان فيهم من يعلمه وهو يعاند طلباً للرياسة أو أريد بالأكثر الجميع على سبيل المجاز فكأنه قيل ولكنهم لا يعلمون كما قيل : قلما رجل يقول ذلك في معنى النفي المحض وإبقاء الأكثر على ظاهره أولى وكونه أريد به الجميع هو تخريج الزمخشري وابن عطية .