البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ} (108)

فأكذبهم الله في قولهم ، ونهاه أن يقوم فيه فقال : لا تقم فيه أبداً نهاه لأن بناته كانوا خادعوا الرسول ، فهمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشي معهم ، واستدعى قميصه لينهض فنزلت : لا تقم فيه أبداً ، وعبَّر بالقيام عن الصلاة فيه .

قال ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين : المؤسس على التقوى مسجد قباء ، أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء ، وهي : يوم الاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، وخرج يوم الجمعة ، وهو أولى لأنّ الموازنة بين مسجد قباء ومسجد الضرار أوقع منها بين مسجد الرسول ومسجد الضرار ، وذلك لائق بالقصة .

وعن زيد بن ثابت ، وأبي سعيد ، وابن عمر : أنه مسجد الرسول .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " هو مسجدي هذا " لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى .

وإذا صحّ هذا النقل لم يمكن خلافه ، ومن هنا دخلت على الزمان ، واستدل بذلك الكوفيون على أنّ من تكون لابتداء الغاية في الزمان ، وتأوله البصريون على حذف مضاف أي : من تأسيس أول يوم ، لأنّ من مذهبهم أنها لا تجر الأزمان ، وتحقيق ذلك في علم النحو .

قال ابن عطية : ويحسن عندي أن يستغني عن تقدير ، وأن تكون من تجر لفظة أول لأنها بمعنى البداءة ، كأنه قال : من مبتدأ الأيام ، وقد حكى لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو انتهى .

وأحق بمعنى حقيق ، وليست أفعل تفضيل ، إذ لا اشتراك بين المسجدين في الحق ، والتاء في أن تقوم تاء خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم .

وقرأ عبد الله بن يزيد : فيه بكسر الهاء فيه الثانية بضم الهاء جمع بين اللغتين ، والأصل الضم ، وفيه رفع توهم التوكيد ، ورفع رجال فيقوم إذ فيه الأولى في موضع نصب ، والثانية في موضع رفع .

وجوزوا في فيه رجال أن يكون صفة لمسجد ، والحال ، والاستئناف .

وفي الحديث قال لهم : " يا معشر الأنصار رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون » ؟ قالوا : يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء يريدون الاستنجاء بالماء ففعلنا ذلك ، فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال : «فلا تدعوه إذاً " وفي بعض ألفاظ هذا الحديث زيادة واختلاف .

وقد اختلف أهل العلم في الاستنجاء بالحجارة أو بالماء أيهما أفضل ؟ ورأت فرقة الجمع بينهما ، وشذ ابن حبيب فقال : لا يستنجى بالحجارة حيث يوجد الماء ، فعلى ما روي في هذا الحديث يكون التطهير عبارة عن استعمال الماء في إزالة النجاسة في الاستنجاء .

وقيل : هو عام في النجاسات كلها .

وقال الحسن : من التطهير من الذنوب بالتوبة .

وقيل : يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة للذنوب ، فحموا عن آخرهم .

وفي دلائل النبوة للبيهقي .

" أن أهل قباء شكوا الحمى فقال «إن شئتم دعوت الله فأزالها عنكم ، وإن شئتم جعلتها لكم طهرة » فقالوا : بل اجعلها لنا طهرة .

" ومعنى محبتهم التطهير أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب الشيء المشتهى له على أشياء ، ومحبة الله إياهم أنه يحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه .

وقرأ ابن مصرف والأعمش : يطهروا بالإدغام ، وقرأ ابن أبي طالب المتطهرين .