البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

{ التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين } : قال ابن عباس : لما نزل إنّ الله اشترى من المؤمنين الآية قال رجل : يا رسول الله وإن زنا ، وإن سرق ، وإن شرب الخمر : فنزلت التائبون الآية .

وهذه أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إلى التحلي بها عباده ، وليكونوا على أوفى درجات الكمال .

وآية أنّ الله اشترى مستقلة بنفسها ، لم يشترط فيها شيء سوى الإيمان ، فيندرج فيها كل مؤمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، وإن لم تكن فيه هذه الصفات .

والشهادة ماحية لكل ذنب ، حتى روي أنه تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه .

وقالت فرقة : هذه الصفات شرط في المجاهد .

والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ، ويبذلون أنفسهم في سبيل الله .

وسأل الضحاك رجل عن قوله تعالى : { إن الله اشترى } الآية وقال : لأحملن على المشركين فأقاتل حتى أقتل ، فقال الضحاك : ويلك أين الشرط التائبون العابدون الآية ؟ وهذا القول فيه حرج وتضييق ، وعلى هذين القولين نرتب إعراب التائبون ، فقيل : هو مبتدأ خبره مذكور وهو العابدون ، وما بعده خبر بعد خبر أي : التائبون في الحقيقة الجامعون لهذه الخصال .

وقيل : خبره الآمرون .

وقيل : خبره محذوف بعد تمام الأوصاف ، وتقديره : من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهد قاله الزجاج كما قال تعالى : { وكلاًّ وعد الله الحسنى } ولذلك جاء : { وبشر المؤمنين } وعلى هذه الأعاريب تكون الآية معناها منفصل من معنى التي قبلها .

وقيل : التائبون خبر مبتدأ محذوف تقديره هم التائبون ، أي الذين بايعوا الله هم التائبون ، فيكون صفة مقطوعة للمدح ، ويؤيده قراءة أبي وعبد الله والأعمش : التايبين بالياء إلى والحافظين نصباً على المدح .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون صفة للمؤمنين ، وقاله أيضاً : ابن عطية .

وقيل : يجوز أن يكون التائبون بدلاً من الضمير في يقاتلون .

قال ابن عباس : التائبون من الشرك .

وقال الحسن : من الشرك والنفاق .

وقيل : عن كل معصية .

وعن ابن عباس : العابدون بالصلاة .

وعنه أيضاً المطيعون بالعبادة ، وعن الحسن : هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء .

وعن ابن جبير : الموحدون السائحون .

قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما : الصائمون شبهوا بالسائحين في الأرض ، لامتناعهم من شهواتهم .

وعن عائشة : سياحة هذه الأمة الصيام ، ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قال الأزهري : قيل : للصائم سائح ، لأن الذي يسيح في الأرض متعبد لا زاد معه ، كان ممسكاً عن الأكل ، والصائم ممسك عن الأكل .

وقال عطاء : السائحون المجاهدون .

وعن أبي أمامة : أنّ رجلاً استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال : « إنّ سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله » صححه أبو محمد عبد الحق .

وقيل : المراد السياحة في الأرض .

فقيل : هم المهاجرون من مكة إلى المدينة .

وقيل : المسافرون لطلب الحديث والعلم .

وقيل : المسافرون في الأرض لينظروا ما فيها من آيات الله ، وغرائب ملكه نظر اعتبار .

وقيل : الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته .

والصفات إذا تكررت وكانت للمدح أو الذم أو الترحم جاز فيها الاتباع للمنعوت والقطع في كلها أو بعضها ، وإذا تباين ما بين الوصفين جاز العطف .

ولما كان الأمر مبايناً للنهي ، إذ الأمر طلب فعل والنهي ترك فعل ، حسن العطف في قوله : والناهون ودعوى الزيادة ، أو واو الثمانية ضعيف .

وترتيب هذه الصفات في غاية من الحسن ، إذا بدأ أولاً بما يخص الإنسان مرتبة على ما سعى ، ثم بما يتعدى من هذه الأوصاف من الإنسان لغيره وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بما شمل ما يخصه في نفسه وما يتعدى إلى غيره وهو الحفظ لحدود الله .

ولما ذكر تعالى مجموع هذه الأوصاف أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبشر المؤمنين .

وفي الآية قبلها فاستبشروا أمرهم بالاستبشار ، فحصلت لهم المزية التامة بأن الله أمرهم بالاستبشار ، وأمر رسوله أن يبشرهم .