تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (91)

وهذا مما يأمر الله تعالى به{[16661]} ، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق ، والمحافظة على الأيمان المؤكدة ؛ ولهذا قال : { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ،

ولا تعارض بين هذا وبين قوله : { وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا [ وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ] } [ البقرة : 224 ]{[16662]} وبين قوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة : 89 ] ، أي : لا تتركوها بلا تكفير ، وبين قوله عليه السلام{[16663]} فيما ثبت عنه في الصحيحين{[16664]} : إني والله إن شاء الله ، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها ، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها " . وفي رواية : " وكفرت عن يميني " ، لا تعارض بين هذا كله ، ولا بين الآية المذكورة هاهنا ، وهي قوله : { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [ وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ] }{[16665]} ؛ لأن هذه الأيمان ، المراد بها : الداخلة في العهود والمواثيق ، لا الأيمان التي هي واردة على حَثّ أو منع ؛ ولهذا قال مجاهد في قوله : { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، يعني : الحِلْف ، أي : حلْفَ الجاهلية ؛ ويؤيده ما رواه الإمام أحمد :

حدثنا عبد الله بن محمد - هو ابن أبي شيبة - ، حدثنا ابن نُمَيْر وأبو أسامة ، عن زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جُبَيْر بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حِلْف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " .

وكذا رواه مسلم ، عن ابن أبي شيبة ، به{[16666]} .

ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلْف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه ، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه .

وأما ما ورد في الصحيحين ، عن عاصم الأحول ، عن أنس ، رضي الله عنه ، أنه قال : حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا{[16667]} - فمعناه : أنه آخى بينهم ، فكانوا يتوارثون به ، حتى نسخ الله ذلك ، والله أعلم .

وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، حدثنا عبيد الله{[16668]} بن موسى ، أخبرنا ابن أبي ليلى ، عن مَزِيدة{[16669]} في قوله : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } ، قال : نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ، كان من أسلم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، فقال : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } ، هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام ، { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } البيعة ، لا يحملنكم قلة محمد [ وأصحابه ]{[16670]} وكثرة المشركين ، أن تنقضوا البيعة التي تبايعتم على الإسلام .

وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا صخر بن جُوَيرية ، عن نافع قال : لما خلع الناس يزيد بن معاوية ، جمع ابن عمر بنيه وأهله ، ثم تشهد ، ثم قال : أما بعد ، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة ، فيقال{[16671]} هذه غَدْرة فلان ، وإن من أعظم الغَدْر - إلا أن يكون الإشراك بالله - أن يبايع رجل رجلا على بيعة الله ورسوله ، ثم ينكث بيعته ، فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر ، فيكون صَيْلم بيني وبينه " {[16672]} .

المرفوع منه في الصحيحين{[16673]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا حجاج ، عن عبد الرحمن بن عابس ، عن أبيه ، عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من شرط لأخيه شرطًا ، لا يريد أن يفي له به ، فهو كالمدلي جاره إلى غير مَنْعَة " {[16674]} .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } ، تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها .


[16661]:في ت، ف، أ: "به تعالى".
[16662]:زيادة من ف، أ.
[16663]:في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
[16664]:في ت: "الصحيح".
[16665]:زيادة من ت، ف، أ.
[16666]:المسند (4/ 83) وصحيح مسلم برقم (2530).
[16667]:صحيح البخاري برقم (2294) وصحيح مسلم برقم (2529).
[16668]:في ت: "عبد الله".
[16669]:في ف: "بريدة".
[16670]:زيادة من ت، ف، أ.
[16671]:في ت، ف: "يقال".
[16672]:المسند (2/ 48).
[16673]:صحيح البخاري برقم (3188) وصحيح مسلم برقم (1735).
[16674]:المسند (5/ 404).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (91)

لما أمر الله المؤمنين بملاك المصالح ونهاهم عن ملاك المفاسد بما أومأ إليه قوله : { يعظكم لعلكم تذكرون } [ سورة النحل : 90 ] . فكان ذلك مناسبة حسنة لهذا الانتقال الذي هو من أغراض تفنّن القرآن ، وأوضح لهم أنهم قد صاروا إلى كمال وخير بذلك الكتاب المبيّن لكل شيء . لا جرم ذكرهم الوفاء بالعهد الذي عاهدوا الله عليه عندما أسلموا ، وهو ما بايعوا عليه النبي مما فيه : أن لا يعصوه في معروف . وقد كان النبي يأخذ البيعة على كل من أسلم من وقت ابتداء الإسلام في مكّة .

وتكررت البيعة قبيل الهجرة وبعدها على أمور أخرى ، مثل النّصرة التي بايع عليها الأنصار ليلة العقبة ، ومثل بيعة الحديبية .

والخطاب للمسلمين في الحفاظ على عهدهم بحفظ الشريعة ، وإضافة العهد إلى الله لأنهم عاهدوا النبي على الإسلام الذي دعاهم الله إليه ، فهم قد عاهدوا الله كما قال : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ سورة الفتح : 10 ] ، وقال : { من المؤمنين رجال صَدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ سورة الأحزاب : 23 ] . والمقصود : تحذير الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام من أن ينقضوا عهد الله .

و { إذا } لمجرّد الظرفية ، لأنّ المخاطبين قد عاهدوا الله على الإيمان والطاعة ، فالإتيان باسم الزمان لتأكيد الوفاء . فالمعنى : أن من عاهد وجب عليه الوفاء بالعهد . والقرينة على ذلك قوله : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } [ سورة النحل : 91 ] والعهد : الحلف . وتقدّم في قوله تعالى : { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } . وكذلك النقض تقدم في تلك الآية ، ونقض الأيمان : إبطال ما كانت لأجله . فالنقض إبطال المحْلوف عليه لا إبطال القسم ، فجُعِل إبطال المحلوف عليه نقضاً لليمين في قوله : { ولا تنقضوا الأيمان } تهويلاً وتغليظاً للنّقض لأنه نقض لحرمة اليمين .

و { بعد توكيدها } زيادة في التحذير ، وليس قيْداً للنّهي بالبعدية ، إذ المقصود أيمان معلومة وهي أيمان العهد والبيعة ، وليست فيها بعدية .

و { بعد } هنا بمعنى ( مع ) ، إذ البعدية والمعيّة أثرهما واحد هنا ، وهو حصول توثيق الأيمان وتوكيدها ، كقول الشميذر الحارثي :

بني عمّنا لا تذكروا الشعر بعدما *** دفنتم بصحراء الغُمَيْر القوافيا

أي لا تذكروا أنّكم شعراء وأن لكم شعراً ، أو لا تنطقوا بشعر مع وجود أسباب الإمساك عنه في وقعة صحراء الغُمير ، وقوله تعالى : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [ سورة الحجرات : 11 ] ، وقوله : الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه .

والتّوكيد : التوثيق وتكرير الفتل ، وليس هو توكيد اللفظ كما توهّمه بعضهم فهو ضدّ النقض . وإضافته إلى ضمير { الأيمان } ليس من إضافة المصدر إلى فاعله ولا إلى مفعوله إذ لم يقصد بالمصدر التجدّد بل الاسم ، فهي الإضافة الأصلية على معنى اللام ، أي التوكيد الثابت لها المختصّ بها . والمعنى : بعد ما فيها من التوكيد ، وبيّنه قوله : { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } .

والمعنى : ولا تنقضوا الأيمان بعد حلفها . وليس في الآية إشعار بأن من اليمين ما لا حرج في نقضه ، وهو ما سمّوه يمين اللّغو ، وذلك انزلاق عن مهيع النظم القرآني .

ويؤيّد ما فسرناه قوله : { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } الواقع موقع الحال من ضمير { لا تنقضوا } ، أي لا تنقضوا الأيمان في حال جعلكم الله كفيلاً على أنفسكم إذا أقسمتم باسمه ، فإن مدلول القسم أنه إشهاد الله بصدق ما يقوله المقسم : فيأتي باسم الله كالإتيان بذات الشاهد . ولذلك سُمّيَ الحلف شهادة في مواضع كثيرة ، كقوله : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } [ سورة النور : 6 ] . والمعنى أن هذه الحالة أظهر في استحقاق النّهي عنها .

والكفيل : الشاهد والضامن والرقيب على الشيء المراعى لتحقيق الغرض منه .

والمعنى : أن القسم باسم الله إشهاد لله وكفالة به . وقد كانوا عند العهد يحلفون ويشهدون الكفلاء بالتنفيذ ، قال الحارث بن حلّزة :

واذكروا حلف ذي المجاز وما قُ *** دّم فيه العهود والكفلاء

و { عليكم } متعلّق ب { جعلتم } لا ب { كفيلاً } أي أقمتموه على أنفسكم مقام الكفيل ، أي فهو الكفيل والمكفول له من باب قولهم : أنت الخصم والحكم ، وقوله تعالى : { وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } [ سورة التوبة : 118 ] .

وجملة { إن الله يعلم ما تفعلون } معترضة . وهي خبر مراد منه التحذير من التساهل في التمسّك بالإيمان والإسلام لتذكيرهم أن الله يطّلع على ما يفعلونه ، فالتوكيد ب { إن } للاهتمام بالخبر .

وكذلك التأكيد ببناء الجملة بالمسند الفعلي دون أن يقال : إن الله عليم ، ولا : قد يعلم الله .

واختير الفعل المضارع في { يعلم } وفي { تفعلون } لدلالته على التجدّد ، أي كلما فعلوا فعلاً فالله يعلمه .

والمقصود من هذه الجمل كلها من قوله : { وأوفوا بعهد الله } إلى هنا تأكيد الوصاية بحفظ عهد الأيمان . وعدم الارتداد إلى الكفر ، وسدّ مداخل فتنة المشركين إلى نفوس المسلمين ، إذ يصدّونهم عن سبيل الإسلام بفنون الصدّ ، كقولهم : { نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين } [ سورة سبأ : 35 ] ، كما أشار إليه قوله تعالى : { وكذلك فتنّا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين } وقد تقدم ذلك في سورة الأنعام ( 53 ) .

ولم يذكر المفسّرون سبباً لنزول هذه الآية ، وليست بحاجة إلى سبب . وذكروا في الآية الآتية وهي قوله : { من كفر بالله من بعد إيمانه } [ سورة النحل : 106 ] أن آية { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } إلى آخرها نزلت في الذين رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان لما فتنهم المشركون كما سيأتي ، فجعلوا بين الآيتين اتصالاً .

قال في « الكشاف » : كأن قوماً ممن أسلم بمكة زَيّنَ لهم الشيطان لجزعهم ما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ، ولِمَا كانوا يَعِدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبّتهم الله ا ه . يريد أن لهجة التحذير في هذا الكلام إلى قوله : { إنما يبلوكم الله به } [ سورة النحل : 92 ] تنبىء عن حالة من الوسوسة داخلت قلوب بعض حديثي الإسلام فنبّأهم الله بها وحذّرهم منها فسلموا .