{ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون } وهذا نكول منهم عن الجهاد ، ومخالفة لرسولهم{[9538]} وتخلف عن مقاتلة{[9539]} الأعداء .
ويقال : إنهم لما نكلوا على الجهاد وعزموا على الانصراف والرجوع إلى بلادهم ، سجد موسى وهارون ، عليهما السلام ، قُدام ملأ من بني إسرائيل ، إعظاما لما هموا به ، وشَق " يوشع بن نون " و " كالب بن يوفنا " ثيابهما ولاما قومهما على ذلك ، فيقال : إنهم رجموهما . وجرى أمر عظيم وخطر جليل .
وما أحسن ما أجاب به الصحابة ، رضي الله عنهم{[9540]} يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال النفير ، الذين جاءوا لمنع العِير الذي كان مع أبي سفيان ، فلما فات اقتناص العير ، واقترب منهم النفير ، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف ، في العُدة{[9541]} والبَيْض واليَلب ، فتكلم أبو بكر ، رضي الله عنه ، فأحسن ، ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أشيروا عليَّ أيها المسلمون " . وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار ؛ لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ . فقال سعد بن معاذ [ رضي الله عنه ]{[9542]} كأنك تُعرض بنا يا رسول الله ، فوالذي{[9543]} بعثك بالحق لو اسْتَعرضْتَ بنا هذا البحر فخُضْتَه لخُضناه معك ، وما تخلَّف منا رجل واحد ، وما نَكْرَه أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصُبُر في الحرب ، صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تَقَرُّ{[9544]} به عينك ، فَسِرْ بنا على بركة الله فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونَشَّطه{[9545]} ذلك . {[9546]}
وقال أبو بكر بن مَرْدُويَه : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو حاتم الرازي ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا حميد عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين ، فأشار إليه عمر ، ثم استشارهم فقالت الأنصار : يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالوا : إذًا لا نقول له كما قالت{[9547]} بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } والذي بعثك بالحق لو ضَرَبْت أكبادها إلى بَرْك الغمَاد لاتبعناك .
ورواه الإمام أحمد ، عن عبيدة{[9548]} بن حميد ، الطويل ، عن أنس ، به . ورواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن خالد بن الحارث ، عن حميد به ، ورواه ابن حبان عن أبي يعلى ، عن عبد الأعلى بن حماد ، عن مَعْمَر{[9549]} بن سليمان ، عن حميد ، به . {[9550]}
وقال ابن مَرْدُويه : أخبرنا عبد الله بن جعفر ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن شعيب ، عن الحسن{[9551]} بن أيوب ، عن عبد الله بن ناسخ ، عن عتبة بن عبد السلمي قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " ألا تقاتلون ؟ " قالوا : نعم ، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما{[9552]} مقاتلون . {[9553]}
وكان ممن أجاب{[9554]} يومئذ المقداد بن عمرو الكندي ، رضي الله عنه ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن مخارق بن عبد الله الأحْمَسِي ، عن طارق - هو ابن شهاب - : أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : يا رسول الله ، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما{[9555]} مقاتلون .
هكذا رواه أحمد من هذا الوجه ، وقد رواه من طريق أخرى فقال :
حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا إسرائيل ، عن مخارق ، عن طارق بن شهاب قال : قال عبد الله - هو ابن مسعود - رضي الله عنه : لقد شهدت من المقداد مشهدًا لأن أكون أنا صاحبه أحب إليَّ مما عدل به : أتى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[9556]} وهو يدعو على المشركين ، فقال : والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ، ومن بين يديك ومن خلفك . فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك ، وسره{[9557]} بذلك . {[9558]}
وهكذا رواه البخاري " في المغازي " وفي " التفسير " من طرق عن مخارق ، به . ولفظه في " كتاب التفسير " عن عبد الله قال : قال المقداد يوم بدر : يا رسول الله ، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن{[9559]} [ نقول ]{[9560]} امض ونحن معك فكأنه سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم قال البخاري : ورواه وَكِيع ، عن سفيان ، عن مخارق ، عن طارق ؛ أن المقداد قال للنبي صلى الله عليه وسلم . {[9561]}
وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحُدَيبية ، حين صَدّ المشركون الهَدْي وحِيلَ بينهم وبين مناسكهم : " إني ذاهب بالهَدْي فناحِرُه عند البيت " . فقال له المقداد بن الأسود : أما{[9562]} والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون . فلما سمعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تتابعوا{[9563]} على ذلك . {[9564]}
وهذا . إن كان محفوظا يوم الحديبية ، فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ كما قاله يوم بَدْر .
إنّما خاطبوا موسى عقبَ موعظة الرجلين لهم ، رجوعاً إلى إبايتِهم الأولى الّتي شافهوا بها موسى إذ قالوا : { إنّ فيها قوماً جبّارين } ، أو لقلّة اكتراثهم بكلام الرجلين وأكّدوا الامتناع الثّاني من الدخول بعد المحاورة أشدّ توكيد دلّ على شدّته في العربيّة بثلاث مؤكدات : ( إنّ ) ، و ( لن ) ، وكلمة ( أبداً ) .
ومعنى قولهم : { فاذهب أنت وربّك فقاتلا } إن كان خطاباً لموسى أنّهم طلبوا منه معجزة كما تعوّدوا من النصر فطلبوا أن يهلك الله الجبّارين بدعوة موسى . وقيل : أرادوا بهذا الكلام الاستخفاف بموسى ، وهذا بعيد ، لأنّهم ما كانوا يشكّون في رسالته ، ولو أرادوا الاستخفاف لكفروا وليس في كلام موسى الواقع جواباً عن مقالتهم هذه إلاّ وصفهم بالفاسقين . والفسق يطلق على المعصية الكبيرة ، فإنّ عصيان أمر الله في الجهاد كبيرة ، ولذلك قال تعالى فلا تأس على القوم الفاسقين ، وعن عبد الله بن مسعود قال : أتى المقدادُ بن الأسود النبيءَ وهو يدعو على المشركين يوم بدر فقال : « يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل » { فاذْهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون } الحديث .
فَلا تَظُنَّنّ من ذلك أنّ هذه الآية كانت مقروءة بينهم يوم بدر ، لأنّ سورة المائدة من آخر ما نزل ، وإنّما تكلّم المقداد بخبر كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يُحدّثهم به عن بني إسرائيل ، ثم نزلت في هذه الآية بذلك اللّفظ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.