البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ} (24)

{ قالوا يا موسى لن ندخلها أبداً ما داموا فيها } لما كرر عليهم أمر القتال كرروا الامتناع على سبيل التوكيد بالمولين ، وقيدوا أولاً نفي الدخول بالظرف المختص بالاستقبال وحقيقته التأبيد ، وقد يطلق على الزمان المتطاول فكأنهم نفوا الدخول طول الأبد ، ثم رجعوا إلى تعليق ذلك بديمومة الجبارين فيها ، فأبدلوا زماناً مقيداً من زمان هو ظاهر في العموم في الزمان المستقبل ، فهو بدل بعض من كل .

{ فاذهب أنت وربك فقاتلا } ظاهر الذهاب الانتقال ، وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة ، ولذلك قال الحسن : هو كفر منهم بالله تعالى .

قال الزمخشري : والظاهر أنهم قالوا ذلك استهانة بالله ورسله وقلة مبالاة بهما واستهزاء ، وقصدوا ذهابهما حقيقة لجهلهم وجفائهم وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل ، وسألوا بها رؤية الله جهرة ، والدليل عليه مقابلة ذهابهما بقعودهم .

ويحكى أنّ موسى وهارون خرّا لوجوههما ما قدامهم لشدة ما ورد عليهما فسموا برجمهما ، ولأمر ما قرن الله اليهود بالمشركين وقدمهم عليهم في قوله تعالى : { لتجدن أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } وقيل : يحتمل أن لا يقصدوا الذهاب حقيقة ، ولكن كما تقول : كلمته فذهب يحبيني ، يريد معنى الإرادة والقصد للجواب ، كأنهم قالوا : اريد إقبالهم .

والمراد بالرّب هنا هو الله تعالى .

وذكر النقاش عن بعض المفسرين هنا أن المراد بالرّب هارون ، لأنه كان أسن من موسى ، وكان معظماً في بني إسرائيل محبباً لسعة خلقه ورحب صدره ، فكأنهم قالوا : اذهب أنت وكبيرك .

وهو تأويل بعيد يخلص بني إسرائيل من الكفر .

وربك معطوف على الضمير المستكن في اذهب المؤكد بالضمير المنفصل ، وقد تقدّم الكلام على ذلك في قوله : { اسكن أنت وزوجك الجنة } ورددنا قول من ذهب إلى أنه مرفوع على فعل أمر محذوف يمكن رفعه الظاهر ، فيكون من عطف الجمل التقدير : فاذهب وليذهب ربك .

وذهب بعض الناس إلى أن الواو واو الحال ، وربك مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف .

أو تكون الجملة دعاء والتقدير فيهما : وربك يعينك ، وهذا التأويل فاسد بقوله فقاتلا .

{ إنا ههنا قاعدون } هذا دليل على أنهم خارت طباعهم فلم يقدروا على النهوض معه للقتال ، ولا على الرجوع من حيث جاءوا ، بل أقاموا حيث كانت المحاورة بين موسى وبينهم .

وها من قوله هاهنا للتنبيه ، وهنا ظرف مكان للقريب ، والعامل فيه قاعدون .

ويجوز في مثل هذا التركيب أن يكون الخبر الظرف وما بعده حال فينتصب ، وأن يكون الخبر الاسم والظرف معمول له .

وهو أفصح .