اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ} (24)

قوله : { قَالُواْ : يَا مُوسَى ، إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أبداً مَا دَامُوا فِيهَا } [ " ما " ]{[11383]} مصْدَريَّة ظرفية و " دَامُوا " صِلَتُهَا ، وهي " دَامَ " النَّاقصة ، وخبرها الجارُّ{[11384]} بعدها ، وهذا الظَّرْفُ بَدَلٌ من " أبداً " وهُوَ بَدَلُ بَعْض من كُلّ ؛ لأنَّ الأبَدَ يعمُّ الزَّمَن المُسْتَقْبَل كله ، ودوام [ الجَبَّارين ]{[11385]} فيها بَعْضه ، وظَاهِرُ عِبَارَة الزَّمَخْشَرِيِّ يُحْتَمَلُ أن يكُون بَدَلُ [ كُلٍّ ]{[11386]} من كُلٍّ أو عَطْف بَيَان ، والعَطْفُ قد يَقَعُ بَيْن النَّكِرَتَيْن على كلام فيه تقدَّم .

قال الزَّمَخْشَرِيُّ{[11387]} : " وأبَداً " تعليق للنَّفْي المُؤكَّد بالدَّهْر المُتَطَاولِ ، { ومَا دَامُوا فِيها } : [ بيانُ الأمْر ]{[11388]} ، فهذه العَبَارَةُ تَحْتَملُ أنَّهُ بَدَلُ بَعْضٍ من كُلٍّ ، لأنَّ بَدَل البَعْضِ من الكُلِّ مُبَيِّنٌ للمُرَاد ، نحو : " أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ " ، ويحتَملُ أن يكُون بَدَلَ كُلٍّ من كُلٍّ ، فإنَّه بيانٌ أيضاً للأوَّل ، وإيضَاحٌ له ، نحو : رَأيْتُ زَيْداً أخَاك ، ويحتمل أن يكُون عَطْفَ بَيَانٍ .

قوله : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ } [ في " وَرَبُّكَ " ]{[11389]} أرْبَعَةُ أوجه :

أحدها : أنَّه مرفوع عَطْفاً على الفاعِل المُسْتَتِر في " اذْهَبْ " ، وجازَ ذلِك للتَّأكِيد بالضَّمِير .

الثاني : أنَّه مَرفوع بِفِعْل مَحْذُوف ، أي : ولْيَذْهَبْ رَبُّكَ ، ويكون من عَطْفِ الجُمَل ، وقد تقدَّم [ لي نَقْلُ ]{[11390]} هذا القَوْل والرَّدُّ عليه ، ومُخَالَفَتُهُ لنَصِّ سِيبَويْه عند قَوْلِهِ تعالى : { اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } [ البقرة : 35 ] .

الثالث : أنَّهُ مُبْتَدأ ، والخبَرُ محذُوفٌ ، و " الواوُ " لِلْحَال .

الرابع : أنَّ " الواوَ " لِلْعَطْفِ ، وما بَعْدَها مُبْتَدَأ محذوفٌ والخَبَرُ - أيضاً - ولا مَحَلَّ لهذه الجُمْلَة من الإعْرَاب لِكَوْنِها دُعَاءً ، والتَّقْدِير : وَرَبُّكَ يُعِينُكَ .

قوله : { هَاهُنَا قَاعِدُونَ } " هُنَا " وَحْدَهُ الظَّرْفُ المَكَانِي الَّذِي لا يَنْصَرِفُ إلا بِجَرِّه ؛ ب " مِنْ " و " إلَى " ، و " هَا " قَبْلَهُ للتَّنْبيه كسَائِرِ أسْمَاء [ الإشارة ]{[11391]} وعامله " قَاعِدُون " ، وقد أجيز أن يكُون خَبَر [ " إنَّ " ]{[11392]} و " قاعدُون " خَبر ثانٍ ، [ وهُو بَعِيدٌ ]{[11393]} .

وفي غير القُرْآن إذا اجْتَمَع ظَرْفٌ يَصِحُّ الإخْبَارُ بِهِ مع وَصْفٍ آخَر ، ويَجُوزُ أن يُجْعَل{[11394]} الظَّرْفُ خَبَراً ، والوَصْفُ{[11395]} حالاً ، وأن يَكُون الخَبَرُ الوَصْفَ ، والظَّرْف مَنْصُوبٌ به كَهَذِه الآية .

فصل

قولهم : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ } فيه وُجُوهٌ :

أحدُهَا : لعلَّ القَوْم كانُوا مُجَسِّمَةً ، يجوِّزُون الذَّهَاب والمَجِيءَ على الله تعالى .

وثانيها : يُحْتَمَلُ ألاَّ يَكُون المُرَادُ حَقِيقَة الذهَاب ، بَلْ كَما يُقَالُ : كَلَّمْته فذهَبَ يُجِيبُنِي ، أي : يُريدُ أن يُجِيبَنِي ، فكأنَّهُم قالوا : كُن أنْتَ وَربُّكَ مُريدين لقتَالِهِمْ .

ثالثها : التَّقْدِير اذْهَبْ أنْتَ وَربُّكَ مُعِينٌ لَكَ بِزَعْمِكَ فأضْمَر خَبَر الابْتِدَاء .

فإن قيل : إذَا أضْمَرْنَا الخَبَرَ فَكَيْفَ يَجْعَل{[11396]} قوله : " فَقَاتِلاَ " خبراً أيضاً .

فالجَوَابُ : لا يَمْتَنِعُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَر .

رابعها : أرَادَ بقوله : " وَرَبُّكَ " أخُوه{[11397]} هَارُون ، وسمُّوه [ ربًّا ]{[11398]} لأنَّهُ كان أكبر من مُوسَى .

قال المُفَسِّرُون{[11399]} : قولهم : { اذهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ } ، إن قَالُوهُ على وَجْهِ الذهَاب من مَكَانٍ إلى مَكَانٍ فهو كُفْرٌ ، وإن قَالُوهُ على وَجْهِ التَّمَرُّدِ عن الطَّاعَةِ فهو فِسْقٌ ، ولقَدْ فَسَقُوا بهذَا الكلامِ لقوله تعالى في هذه القصة : { فلا تَأسَ عَلَى القَوْمِ الفَاسِقِينَ } .

والمقْصُودُ من هذه القِصَّة : شَرْحُ حال هؤلاءِ اليَهُودِ ، وشِدَّة بُغْضِهِم [ وَغُلُّوهِمِ ]{[11400]} في المُنَازَعَةِ مع الأنْبِيَاءِ قَدِيماً ،


[11383]:سقط في أ.
[11384]:في أ: الحال.
[11385]:سقط في أ.
[11386]:سقط في أ.
[11387]:ينظر: الكشاف 1/621.
[11388]:في أ: يأتي للأبد.
[11389]:سقط في أ.
[11390]:سقط في أ.
[11391]:سقط في أ.
[11392]:في أ: كان.
[11393]:سقط في أ.
[11394]:في أ: يحصل.
[11395]:في أ: والموصوف.
[11396]:في ب: يكون.
[11397]:في أ: أخاه.
[11398]:سقط في أ.
[11399]:ينظر: تفسير الرازي 11/158.
[11400]:سقط في أ.