تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (7)

ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل ، خافت القبط أن يُفْني بني إسرائيل{[22219]} فَيَلُون{[22220]} هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة . فقالوا لفرعون : إنه يوشك - إن استمر هذا الحال - أن يموت شيوخهم ، وغلمانهم لا يعيشون ، ونساؤهم لا يمكن أن يَقُمْن بما يقوم به رجالهم من الأعمال ، فيخلص إلينا ذلك . فأمر بقتل الولدان عامًا وتركهم عامًا ، فولد هارون ، عليه السلام ، في السنة التي يتركون فيها الولدان ، وولد موسى ، عليه السلام ، في السنة التي يقتلون فيها الولدان ، وكان لفرعون أناس موكلون بذلك ، وقوابل يَدُرْنَ على النساء ، فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها ، فإذا كان وقت ولادتها لا يَقْبَلُها إلا نساء القبط ، فإذا ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن ، وإن ولدت غلامًا دخل أولئك الذبَّاحون ، بأيديهم الشفار المرهفة ، فقتلوه ومضوا قَبَّحَهُم الله . فلما حملت أم موسى به ، عليه السلام ، لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها ، ولم تفطن لها الدايات ، ولكن لما وضعته ذكرًا ضاقت به ذرعًا ، وخافت عليه خوفًا شديدًا وأحبته حبًّا زائدًا ، وكان موسى ، عليه السلام ، لا يراه أحد إلا أحبه ، فالسعيد من أحبه طبعا وشرعًا قال الله تعالى : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } [ طه : 39 ] . فلما ضاقت ذرعًا به ألهمت في سرها ، وألقي في خلدها ، ونفث في روعها ، كما قال الله تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } . وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل ، فاتخذت تابوتًا ، ومهدَت فيه مهدًا ، وجعلت ترضع ولدها ، فإذا دخل عليها أحد مِمَّنْ تخاف جعلته في ذلك التابوت ، وسيرته{[22221]} في البحر ، وربطته{[22222]} بحبل عندها . فلما كان ذات يوم دخل عليها مَنْ تخافه ، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت ، وأرسلته في البحر وذهلت عن أن تربطه ، فذهب مع الماء واحتمله ، حتى مر به{[22223]} على دار فرعون ، فالتقطه الجواري فاحتملنه ، فذهبن به إلى امرأة فرعون ، ولا يدرين ما فيه ، وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها . فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه ، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه ، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها ؛ ولهذا قال { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا [ وَحَزَنًا ] } {[22224]} .


[22219]:- في ف : "أن تفنى بنو إسرائيل" وفي أ : "أن يفنى ينو إسرائيل".
[22220]:- في أ : "فيكون".
[22221]:- في ت : "وأرسلته".
[22222]:- في أ : "وأوثقته".
[22223]:- في أ : "حتى قربه".
[22224]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (7)

وهذا «الوحي » { إلى أم موسى } قالت فرقة : كان قولاً في منامها ، وقال قتادة : كان إلهاماً ، وقالت فرقة : كان بملك تمثل لها ، وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية ، وإنما إرسال الملك لها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص في الحديث المشهور{[9105]} وغير ذلك مما روي من تكليم الملائكة للناس من غير نبوة ، وجملة أمر أم موسى أنها علمت أن الذي وقع في نفسها هو من عند الله ووعد منه ، يقتضي ذلك قوله تعالى بعد : { رددناه إلى أمه كي تقرَّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق }{[9106]} [ القصص : 13 ] وهذا معنى قوله { لتكون من المؤمنين } [ القصص : 10 ] أي بالوعد ، وقال السدي وغيره : أمرت أن ترضعه عقب الولادة وتصنع به ما في الآية . لأن الخوف كان عقب كل ولادة ، وقال ابن جريج : أمرت برضاعه أربعة أشهر في بستان فإذا خافت أن يصيح لأن لبنها لا يكفيه ، صنعت به هذا .

قال القاضي أبو محمد : والأول أظهر إلا أن الآخر يعضده أمران : أحدهما قوله { فإذا خفت عليه } و «إذا » ظرف لما يستقبل من الزمان ، والآخر أنه لم يقبل المراضع والطفل إثر ولادته لا يعقل ذلك ، اللهم إلا أن يكون هذا منه بأن الله تعالى حرمها عليه وجعله يأباها بخلاف سائر الأطفال ، وقرأ عمرو بن عبد الواحد{[9107]} «أن ارضعيه » بكسر النون وذلك على حذف الهمزة عبطاً لا تخفيفاً ، والتخفيف القياسي فتح النون قاله ابن جني{[9108]} ، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه و { اليم } جمهور الماء ومعظمه ، والمراد نيل مصر ، وروي في قصص هذه الآية أن أم موسى واسمها يوحانه{[9109]} أخذته ولفته في ثيابه وجعلت له تابوتاً صغيراً وسدته عليه بقفل وعلقت مفتاحه عليه وأسلمته ثقة بالله وانتظاراً لوعده فلما غاب عنها عاودها بثها وأسفت عليه وأقنطها الشيطان فاهتمت به وكادت تفتضح وجعلت الأخت تقصه أي تطلب أثرة .


[9105]:الحديث في البخاري ومسلم، وهو عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وفيه أن أبا هريرة سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن ثلاثة في بني إسرائيل، أبرص واقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملك، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ فقال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قذرني الناس...) إلى آخر الحديث حيث حقق الله لكل واحد ما يريد امتحانا وابتلاء، ولم يوفق إلى فعل الخير منهم إلا الأعمى فحفظ الله عليه نعمته، ورد كلا من الأبرص والأقرع إلى ما كان عليه.
[9106]:الآية 13 من هذه السورة.
[9107]:نسبها في القرطبي إلى عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – فقط، وذكر صاحب البحر أنها للاثنين: عمرو بن عبد الواحد، وعمر بن عبد العزيز.
[9108]:قال ابن جني: كما قرأ ابن محيصن: {فجاءته إحداهما} وكما قال الله تبارك وتعالى: {أن اقذفيه في التابوت}، ولو كان على التخفيف القياسي لقال: {أن ارضعيه} بفتح النون بحركة الهمزة من [أرضعيه].
[9109]:وقيل : اسمها "لوحا بنت هاند بن لاوي بن يعقوب" وقيل: يوخاند، وقيل: يوخابيل.