تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٖ قَدَّرُوهَا تَقۡدِيرٗا} (16)

وقوله{[29605]} : { قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ } فالأول منصوب بخبر " كان " أي : كانت قوارير . والثاني منصوب إما على البدلية {[29606]} أو تمييز ؛ لأنه بينه بقوله : { قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ }

قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن البصري ، وغير واحد : بياض الفضة في صفاء الزجاج ، والقوارير لا تكون إلا من زجاج . فهذه الأكواب هي من فضة ، وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها ، وهذا مما لا نظير له في الدنيا .

قال ابن المبارك ، عن إسماعيل ، عن رجل ، عن ابن عباس : ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة . رواه ابن أبي حاتم .

وقوله : { قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا } أي : على قدر ريّهم ، لا تزيد عنه ولا تنقص ، بل هي مُعَدّة لذلك ، مقدرة بحسب ريّ صاحبها . هذا معنى قول ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي صالح ، وقتادة ، وابن أبزى ، وعبد الله بن عُبَيد الله بن عمير ، وقتادة ، والشعبي ، وابن زيد . وقاله ابن جرير وغير واحد . وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة .

وقال العَوفي ، عن ابن عباس : { قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا } قدرت للكف . وهكذا قال الربيع بن أنس . وقال الضحاك : على قدر أكُفّ الخُدّام . وهذا لا ينافي القول الأول ، فإنها مقدرة في القَدْر والرّي .


[29605]:- (4) في م، أ: "وهذه".
[29606]:- (5) في أ: "على البداية".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٖ قَدَّرُوهَا تَقۡدِيرٗا} (16)

و { آنية } جمع إناء . و { الكوب } ما لا عروة له ولا أذن من الأواني ، وهي معروفة الشكل في تلك البلاد . وهو الذي تقول له العامة القب ، لكنها تسمي بذلك ما له عروة . وذلك خطأ أيضاً . وقال قتادة : الكوب القدح . والقوارير : الزجاج .

واختلف القراء فقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم «قواريراً قواريراً » بالإجراء فيهما على ما قد تقدم في قوله «سلاسلاً »{[11519]} ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «قراريرَ قراريرَ » بترك الإجراء فيهما{[11520]} ، وقرأ ابن كثير «قواريراً » بالإجراء في الأول «قواريرَ » بترك الإجراء في الثاني{[11521]} ، وقرأ أبو عمرو «قواريرا » ، ووقف بألف دون تنوين «قواريرَ » بترك الإجراء في الثاني .

وقوله تعالى : { من فضة } يقتضي أنها من زجاج ومن فضة وذلك متمكن لكونه من زجاج في شفوفه و { من فضة } في جوهره ، وكذلك فضة الجنة شفافة ، وقال أبو علي جعلها { من فضة } لصفائها وملازمتها لتلك الصفة وليست من فضة في حقيقة أمرها . وإنما هذا كما قال الشاعر [ البعيث ] : [ الطويل ]

ألا أصبحت أسماء جاذمة الوصل*** وضنت عليها والضنين من البخل{[11522]} .

وقوله تعالى : { قدروها } يحتمل أن يكون الضمير للملائكة ، ويحتمل أن يكون للطائفين ، ويحتمل أن يكون للمنعمين ، والتقدير إما أن يكون على قدر الأكف قاله الربيع ، أو على قدر الري قاله مجاهد ، وهذا كله على قراءة من قرأ «قَدروها » بتخفيف القاف ، وقرأ ابن أبزى وعلي الجحدري وابن عباس والشعبي وقتادة «قُدِروها » بضم القاف وكسر الدال ، قال أبو علي : كأن اللفظ قدروا عليها ، وفي المعنى قلب لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدرت عليهم فهي مثل قوله :

{ ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة }{[11523]} [ القصص : 76 ] ، ومثل قول العرب : إذا طلعت الجوزاء ، ألفى العود على الحرباء ، حكاه أبو علي .


[11519]:يعني بتنوينهما وصلا وإبدال التنوين ألفا في الوقف.
[11520]:يعني بمنع صرفهما، وهي قراءة حفص عن عاصم.
[11521]:يعني بصرف الأول ومنع الصرف في الثاني.

[11522]:هذا البيت لخداش بن بشر المجاشعي المعروف باسم البعيث، وهو في اللسان – جذم وضن- ويروى "خنساء" بدلا من "أسماء" و "الحبل" بدلا من " الوصل" . وجذم: قطع، يقال: جذب فلان حبل وصله وجذمه إذا قطعه، والضن: البخل، وأراد بقوله: (والضنين من البخل) أن الضنين مخلوق من البخل، كقولهم: هو مجبول من الكرم، وهي مخلوقة من البخل، وهذا على المجاز لأن المرأة جوهر والبخل عرض، والجوهر لا يكون من العرض، إنما يريد أن البخل تمكن فيها حتى كأنها مخلوقة منه، وهذا هو موضع الاستشهاد هنا.
[11523]:من الآية 76 من سورة القصص.