اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٖ قَدَّرُوهَا تَقۡدِيرٗا} (16)

و«مَنْ فضَّةٍ » صفة ل «قوارير » ، والمعنى : في صفاء القوارير ، وبياض الفضة ، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة .

فصل في وصف تربة الجنة

رُوي أن أرض الجنة من فضة ، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي منها ، ذكره ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال : ليس في الجنة شيء إلا وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة .

قال ابن الخطيب{[58910]} : ومعنى «كانت » هو من يكون ، من قوله : { فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] أي : فتكونت قوارير بتكوين الله - تعالى - تفخيماً لتلك الخلقةِ العظيمة العجيبة الشأن ، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين ، ثم قال : فإن قيل : كيف تكون هذه الأكوابُ من فضة ومن قوارير ؟ .

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن أصل القوارير في الدنيا الرَّمل ، وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة ، فكما أن الله - تعالى - قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية ، فكذلك قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة لطيفة ، فالغرض من ذكر هذه الآية التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة الفضة إلى الرمل فكما أنه لا نسبة بين هذين الأصلين فكذا بين القارورتين .

وثانيها : ما تقدم من قول ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء ، أي : أنها جامعة بين صفاء الزجاج وشفافيته وبين نقاء الفضة وشرفها{[58911]} .

وثالثها : أنه ليس المراد بالقوارير الزجاج ، بل العرب تسمي ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة مما رق وصفا قارورة ، فالمعنى : وأكواب من فضة مستديرة صافية .

قوله : { تَقْدِيراً } صفة ل «قوارير » ، والواو في «قَدَّرُوها » فيها وجهان :

أحدهما : أنها عطف عليهم ، ومعنى تقديرهم إياها أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم ، فجاءت كما قدروا .

والثاني : أن الواو للطائفين للدلالة عليهم في قوله تعالى : «ويُطَافُ » ، والمعنى : أنهم قدروا شرابها على قدر ريِّ الشارب ، وهذا ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها ، ولا يعجز . قاله الزمخشري .

وجوز أبو البقاء : أن تكون الجملة مستأنفة .

قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : أتوا بها على قدر ريِّهم بغير زيادة ولا نقصان{[58912]} ، قال الكلبي : وذلك ألذّ وأشهى ، والمعنى : قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم{[58913]} ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قدروها على ملء الكف لا يزيد ولا ينقص حتى لا تؤذيهم بثقل ، أو بإفراط صغر{[58914]} .

وقرأ علي ، وابن{[58915]} عباس ، والسلمي ، والشعبي ، وزيد بن علي ، وعبيد بن عمير ، وأبو عمرو في رواية الأصمعي : «قُدِّروها » بضم القاف وكسر الدال مبنياً للمفعول أي : جعلت لهم على قدر إرادتهم .

وجعله الفارسي من باب المقلوب ، قال : كان اللفظُ قدروها عليها ، وفي المعنى قلب ؛ لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدرت عليهم ، فهي مثل قوله تعالى : { لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة } [ القصص : 76 ] ، ومثل قول العرب : إذا طلعت الجوزاء ، ألقى العود على الحرباء .

قال الزمخشري : ووجهه أن يكون من قدر منقولاً ، تقول : قدرت الشيء وقَدّرَنِيهِ فلان : إذا جعلك قادراً له ، ومعناه : جعلوا قادرين لها كما شاءوا ، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا .

وقال أبو حاتم : قدرت الأواني على قدر ريهم ما لم يسمَّ فاعله ، فحذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم ، لما حذف المضاف مما قبلها ، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله ، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدير النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل .

وفي هذا التخريج تكلف مع عجرفة ألفاظه .

وقال أبو حيان{[58916]} : والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل : قدر ريهم منها تقديراً ، فحذف المضاف وهو الري ، وأقيم الضمير بنفسه ، فصار قدروها ، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف ، واتساع في الفعل .

قال شهاب الدين{[58917]} : وهذا منتزع من تفسير كلام أبي حاتم .

وقال القرطبي{[58918]} : وقال المهدوي : من قرأها «قدروها » فهو راجع إلى معنى القراءة الأخرى ، وكأن الأصل : قدروا عليها ، فحذف حرف الجر ، والمعنى : قدرت عليهم ؛ وأنشد سيبويه البيت [ البسيط ]

5047- آلَيْتُ حَبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ آكُلُهُ *** والحَبُّ يأكُلهُ في القَرْيَةِ السُّوسُ{[58919]}

وذهب إلى أن المعنى : على حبّ العراق ، وقيل : هذا التقدير : هو أن الأقداح تطير فتغترف بمقدار شهوة الشَّارب ، وذلك قوله تعالى : { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } .

أي : لا يفضل عن الري ولا ينقص منه ، فقد ألهمت الأقداح معرفة مقدار ري المشتهي حتى تغترف بذلك المقدار . ذكر الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول » .


[58910]:ينظر: الفخر الرازي 30/220.
[58911]:في أ: ونقائها.
[58912]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/367) عن مجاهد والحسن. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/487) من طريق مجاهد عن ابن عباس وعزاه إلى الفريابي.
[58913]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/92).
[58914]:ينظر المصدر السابق.
[58915]:ينظر: المحرر الوجيز 5/412، والبحر المحيط 8/389، والدر المصون 6/445.
[58916]:البحر المحيط 8/398.
[58917]:الدر المصون 6/445.
[58918]:الجامع لأحكام القرآن 19/92.
[58919]:تقدم.