الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٖ قَدَّرُوهَا تَقۡدِيرٗا} (16)

قوله : { قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ } : اختلف القُراء في هذَين الحرفَيْن بالنسبة إلى التنوين وعَدَمِهِ ، وفي الوقوفِ بالألفِ وعَدَمِها كما تقدَّم خلافُهم في { سَلاَسِلَ } . واعلَمْ أنَّ القُرَّاء فيهما على خمسِ مراتبَ ، إحداها : تنوينُهما معاً ، والوقفُ عليهما : بالألفِ ، لنافعٍ والكسائيِّ وأبي بكر . الثانيةُ : مقابِلَةُ هذه ، وهي عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ عليهما بالألفِ ، لحمزةَ وحدَه . الثالثة : عَدَمُ تنوينِهما ، والوقفُ عليهما بالألف ، لهشامٍ وحدَه . الرابعة : تنوينُ الأولِ دونَ الثاني ، والوقفُ على الأولِ بالألفِ ، وعلى الثاني بدونِها ، لابنِ كثيرٍ وحدَه . الخامسةُ : عَدَم تنوينِهما معاً ، والوقفُ على الأولِ بالألفِ ، وعلى الثاني بدونِها : لأبي عمروٍ وابن ذكوانَ وحفصٍ .

فأمَّا مَنْ نَوَّنَهما فلِما مَرَّ في تنوينِ سلاسل ؛ لأنَّهما صيغَةُ منتهى الجمع ، ذاك على مَفاعلِ ، وذا على مَفاعيل . والوقفُ بالألفِ التي هي بدلٌ من التنوين ، وفيه موافقةُ المصاحفِ المذكورةِ فإنَّهما مَرْسومان فيها بالألفِ على ما نَقَلَ أبو عبيد . وأمَّا عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ بالألف فظاهرٌ جداً . وأمَّا مَنْ نَوَّنَ الأولَ دونَ الثاني ، فإنَّه/ ناسَبَ بين الأولِ وبين رؤوسِ الآيِ . ولم يناسِبْ بينَ الثاني وبين الأولِ . والوجهُ في وَقْفِه على الأولِ بالألفِ وعلى الثاني بغيرِ ألفٍ ظاهرٌ . وقد رَوَى أبو عُبيد أنه كذلك في مصاحِف أهلِ البصرة .

وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ، ووقف على الأولِ بالألفِ ، وعلى الثاني بدونِها ؛ فلأنَّ الأولَ رأسُ آيةٍ فناسَبَ بينه وبين رؤوس الآيِ في الوقفِ بالألفِ . وفَرَّق بينه وبين الثاني ؛ لأنه ليسَ برأس آيةٍ . وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ووقف عليهما بالألفِ فلأنَّه ناسَبَ بين الأول وبين رؤوس الآيِ وناسَبَ بين الثاني وبين الأولِ . وحَصَل مِمَّا تقدَّم في " سلاسل " وفي هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القُرَّاءَ منهم مَنْ وافَقَ مصحَفَه ، ومنهم مَنْ خالفَه لاتِّباع الأثَرِ . وتقدَّم الكلامُ على " قوارير " في سورةِ النمل ولله الحمدُ .

وقال الزمخشري : " وهذا التنوين بدلٌ مِنْ حرفِ الإِطلاقِ لأنَّه فاصلةٌ ، وفي الثاني لإِتباعِه الأولَ " يعني أنَّهم يَأْتُون بالتنوينِ بدلاً مِنْ حرفِ الإِطلاق الذي للترنم ، كقولِه :

يا صاحِ ما هاجَ الدُّموعَ الذُّرَّفَنْ ***

وفي انتصابِ " قوارير " وجهان ، أحدُهما وهو الظاهرُ أنَّه خبرُ كان . والثاني : أنها حالٌ ، و " كان " تامةٌ أي : كُوِّنَتْ فكانَتْ . قال أبو البقاء : " وحَسُن التكريرُ لِما اتَّصل به مِنْ بيانِ أصلِها ، ولولا التكريرُ لم يَحْسُنْ أَنْ يكونَ الأولُ رأسَ آيةٍ لشدَّةِ اتصالِ الصفةِ بالموصوفِ . وقرأ الأعمش " قواريرُ " بالرفع على إضمارِ مبتدأ أي : هي قوارير . و " مِنْ فضة " صفةٌ ل " قوارير " .

قوله : { قَدَّرُوهَا } صفةٌ ل " قواريرَ " . والواو في " قَدَّروها " فيه وجهان ، أحدهما : أنَّه للمُطافِ عليهم . ومعنى تقديرهم إياها : أنهم قَدَّروها في أنفسِهم أَنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ على حَسَبِ شَهَواتِهم ، فجاءَتْ كما قَدَّروا .

والثاني : أنَّ الواو للطائفين للدلالةِ عليهم ، مِنْ قولِه تعالى : " ويُطافُ " والمعنى : أنهم قَدَّروا شرابَها على قَدْر رِيِّ الشَّارِب ، وهو ألذُّ الشرابِ لكونِه على مِقْدارِ حاجتِه لا يَفْضُل عنها ولا يَعْجِزُ ، قاله الزمخشري . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً .

وقرأ عليٌّ وابنُ عباس والسُّلميُّ والشعبيُّ وزيدُ بن علي وأبو عمروٍ في روايةِ الأصمعيِّ " قُدِّرُوْها " مبنياً للمفعول . وجَعَله الفارسِيُّ مِنْ بابِ المَقْلوبِ قال : " كأنَّ اللفظ : قُدِّروا عليها . وفي المعنى قَلْبٌ ؛ لأنَّ حقيقةَ المعنى أن يقال : قُدِّرَتْ عليهم ، فهي مثلُ قولِه : { لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ } [ القصص : 76 ] ومثلُ قولِ العرب : " إذا طَلَعَتِ الجَوْزاءُ أُلْقِيَ العُوْدُ على الحِرْباء " . وقال الزمخشري : " ووجهُه أَنْ يكونَ مِنْ قُدِّر منقولاً مِنْ قَدَرَ . تقول : قَدَرْتُ [ الشيءَ ] وقَدَرَنيه فلان ، إذا جعلك قادراً له ومعناه : جُعلوا قادرين لها كما شاؤوا ، وأُطْلِق لهم أَنْ يُقَدِّروا على حَسَبِ ما اشْتَهَوْا " . وقال أبو حاتم : " قُدِّرَتْ الأواني على قَدْرِ رِيِّهم " ففَسَّر بعضُهم قولَ أبي حاتمٍ هذا قال : " فيه حَذْفٌ على حَذْفٍ : وهو أنه كان : " قُدِّرَ على قَدْرِ ريِّهم إياها " ثم حُذِفَ " على " فصار : " قَدْرُ رِيِّهم " على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه ، ثم حُذِف " قَدْرُ " فصار " رِيُّهم " ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، فحُذِفَ الرِّيُّ فصارَتِ الواوُ مكانَ الهاءِ والميمِ ، لَمَّا حُذِفَ المضافُ مِمَّا قبلَها ، وصارَتِ الواوُ مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، واتصلَ ضميرُ المفعولِ الثاني في تقديرِ النصبِ بالفعلِ بعدَ الواوِ التي تَحَوَّلَتْ من الهاءِ والميم ، حتى أُقيمَتْ مُقامَ الفاعل " . قلت : وفي هذا التخريجِ من التكلُّف ما لا يَخْفَى مع عَجْرَفَةِ ألفاظِه .

وقال الشيخ : " والأقربُ في تخريج هذه القراءةِ الشاذَّة : " قُدِّرَ رِيُّهم منها تقديراً " فحُذِف المضافُ وهو الرِّيُّ ، وأُقيم الضميرُ مُقامَه ، فصار التقديرُ : قُدِّروا مِنْها ، ثم اتُّسِع في الفعل فحُذِفَتْ " مِنْ " ووصَلَ الفعلُ إلى الضميرِ بنفسِه فصار : " قُدِّرُوْها " فلم يكن فيه إلاَّ حَذْفُ مضافٍ واتِّساعٌ في الفعل " . قلت : وهذا مُنْتَزَعٌ من تفسيرِ كلامِ أبي حاتم .