ينهى تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السُّكْرِ ، الذي لا يدري معه المصلي ما يقول ، وعن قربان محلها - وهي المساجد - للجُنُب ، إلا أن يكون مجتازا من باب إلى باب من غير مُكْثٍ وقد كان هذا قبل تحريم الخمر ، كما دل الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة ، عند قوله [ تعالى ]{[7531]} { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ]{[7532]} } الآية [ البقرة : 219 ] ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فلما نزلت هذه الآية ، تلاها عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات{[7533]} فلما نزل{[7534]} قوله [ تعالى ]{[7535]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [ المائدة : 90 ، 91 ] فقال عمر : انتهينا ، انتهينا .
وفي رواية إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو - وهو ابن شُرَحبيل - عن عُمَرَ بْنِ الْخطَّاب في قصة تحريم الخمر ، فذكر الحديث وفيه : فنزلت الآية التي في ] سورة[ {[7536]} النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت{[7537]} الصلاة ينادي : ألا يَقْرَبَنَّ الصلاة سكران . لفظ أبي داود .
وذكروا في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم{[7538]} .
حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا شُعْبَة ، أخبرني سِمَاكُ بن حَرْبٍ قال : سمعت مُصْعَبَ بنَ سَعْدٍ يحدث عن سعد قال : نزلت في أربعُ آيات : صنع رجل من الأنصار طعاما ، فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار ، فأكلنا وشربنا حتى سَكرْنا ، ثم افتخرنا فرفع رجل لَحْي بعير فَفَزَر{[7539]} بها أنف سعد ، فكان سعد مَفْزور{[7540]} الأنف ، وذلك قبل أن تحرم الخمر ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } الآية .
والحديث بطوله عند مسلم من رواية شُعْبة . ورواه أهلُ السُّنَن إلا ابنَ ماجه ، من طُرُق عن سِماكٍ به{[7541]} .
سبب آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمَّار ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدَّشْتَكي ، حدثنا أبو جعفر عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السّلَمي ، عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرتِ الصلاةُ فقدَّموا فلانا - قال : فقرأ : قل يا أيها الكافرون ، ما أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون . [ قال ]{[7542]} فأنزل الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ }
هكذا رواه ابن أبي حاتم ، وكذا رواه الترمذي عن عبد{[7543]} بن حُمَيْدٍ ، عن عبد الرحمن الدَّشْتَكي ، به ، وقال : حسن صحيح{[7544]} .
وقد رواه ابن جرير ، عن محمد بن بشار ، عن عبد الرحمن بن مَهْدي ، عن سفيانَ الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي ؛ أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر ، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : { قُلْ [ يَا ]{[7545]} أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فخلط فيها ، فنزلت : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } .
وهكذا رواه أبو داود والنسائي ، من حديث الثوري ، به . {[7546]}
ورواه ابن جَرِير أيضا ، عن ابن حُمَيْدٍ ، عن جَرِيرٍ ، عن عطاء ، عن أبي عبد الله السَّلَمِيّ قال : كان عَلِيٌّ في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عبد الرحمن بن عوف ، فطعموا فآتاهم بخمر فشربوا منها ، وذلك قبل أن يحرم{[7547]} الخمر ، فحضرت الصلاة فَقَدَّموا عليًا فقرأ بهم : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فلم يقرأها كما ينبغي ، فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى }
ثم قال : حدثني المُثَنَّى ، حدثنا الحجَّاج بن المِنْهال ، حدثنا حَمَّاد ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن حبيب - وهو أبو عبد الرحمن السَّلَمي ؛ أن عبد الرحمن بن عَوْفٍ صنع طعامًا وشرابا ، فدعا نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم المغرب ، فقرأ : قل يا أيها الكافرون . أعبد ما تعبدون . وأنتم عابدون ما أعبد . وأنا عابد ما عبدتم . لكم دينكم ولي دين . فأنزل الله ، عز وجل ، هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ }{[7548]} .
وقال الْعَوْفِي عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ]{[7549]} } وذلك أن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سُكَارَى ، قبل أن تحرم الخمر ، فقال الله : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } الآية . رواه ابن جرير . وكذا قال أبو رَزِين ومُجَاهدٌ . وقال عبد الرزاق ، عن معمر عن قتادة : كانوا يجتنبون السُّكْرَ عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر .
وقال الضَّحَّاكُ في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } لم يعن بها سُكْرَ الخمر ، وإنما عنى بها سُكْرَ النوم . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
ثم قال ابن جرير : والصواب أن المراد سُكْر الشراب . قال : ولم يتوجه النهي إلى السكْران الذي لا يفهم الخطاب ؛ لأن ذاك في حكم المجنون ، وإنما خُوطِب بالنهي الثَّمِل الذي يفهم التكليف{[7550]} .
وهذا حاصل ما قاله . وقد ذكره غير واحد من الأصوليين ، وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام ، دون السكران الذي لا يدري ما يقال له ؛ فإن الفهم شرط التكليف . وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السُّكْر بالكلية ؛ لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار ، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما ، والله أعلم . وعلى هذا فيكون كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك .
وقوله : { حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } هذا أحسن ما يقال في حد السكران : إنه الذي لا يدري ما يقول{[7551]} فإن المخمور{[7552]} فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره{[7553]} وخشوعه فيها ، وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا أيوب ، عن أبي قِلابةَ ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نعس أحدكم وهو يصلي ، فلينصرف فليتم حتى يعلم ما يقول . انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ، ورواه هو والنسائي من حديث أيوب ، به{[7554]} وفي بعض ألفاظ الحديث{[7555]} فلعله يذهب يستغفر فيسُبّ نفسه .
وقوله : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكي ، أخبرنا أبو جعفر الرازي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } قال : لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل ، قال : تمر{[7556]} به مرًّا ولا تجلس . ثم قال : ورُوي عن عبد الله بن مسعود ، وأنس ، وأبي عُبَيْدَةَ ، وسعيد بن المُسَيَّبِ ، وأبي الضُّحَى ، وعطاء ، ومُجَاهد ، ومسروق ، وإبراهيم النَّخَعي ، وزيد بن أسلم ، وأبي مالك ، وعَمْرو بن دينار ، والحكم بن عُتَيْبَة{[7557]} وعِكْرِمَة ، والحسن البصري ، ويَحْيَى بن سعيد الأنصاري ، وابن شهاب ، وقتادَة ، نحوُ ذلك .
وقال ابن جرير : حدثني المُثَنَّى ، حدثنا أبو صالح ، حدثني اللَّيْثُ ، حدثني يَزِيدُ بن أبي حَبِيبٍ عن قول الله عز وجل{[7558]} { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ } أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ، فيردون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد ، فأنزل الله : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ }
ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حَبِيبٍ ، رحمه اللهُ ، ما ثبت في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سُدُّوا كل خَوخة في المسجد إلا خَوخةَ أبي بكر " {[7559]} .
وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم ، علما منه أن أبا بكر ، رضي الله عنه ، سيلي الأمر بعده ، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين ، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه ، رضي الله عنه . ومن روى : " إلا باب علي " كما وقع في بعض السنن ، فهو خطأ ، والصحيح . ما ثبت في الصحيح . ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب اللبث في المسجد ، ويجوز له المرور ، وكذا الحائض والنفساء أيضًا في معناه ؛ إلا أن بعضهم قال : يمنع مرورهما لاحتمال التلويث . ومنهم من قال : إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لهما المرور وإلا فلا .
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة ، رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ناوليني الخُمْرة من المسجد " فقلت : إني حائض . فقال : " إن حيضتك ليست في يدك " . وله عن أبي هريرة مثله{[7560]} ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد ، والنفساء في معناها والله أعلم .
وروى أبو داود من حديث أفْلَتَ بن خليفة{[7561]} العامري ، عن جَسْرة بنت دجاجة ، عن عائشة ] رضي الله عنها[ {[7562]} قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنبٍ " {[7563]} قال أبو مسلم الخَطَّابي : ضَعَّف هذا الحديث جماعة وقالوا : أفلت مجهول . لكن رواه ابن ماجه من حديث أبي الخطاب الهَجَري ، عن مَحْدوج{[7564]} الذهلي ، عن جَسْرة ، عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، به . قال أبو زرعة الرازي : يقولون : جسْرة عن أم سلمة . والصحيح جسرة عن عائشة .
فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي ، من حديث سالم بن أبي حفصة ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخُدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا علي ، لا يحل لأحد أن يُجْنب في هذا المسجد غيري وغيرك . إنه حديث ضعيف لا يثبت ؛ فإن سالما هذا متروك ، وشيخه عطية ضعيف{[7565]} والله أعلم .
قول آخر في معنى الآية : قال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرني ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن زِرّ بن حُبَيش ، عن علي : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ } قال : لا يقرب الصلاة ، إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة ، فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء .
ثم رواه من وجه آخر ، عن المنهال بن عمرو ، عن زِرّ ، عن علي بن أبي طالب ، فذكره . قال : ورُوي عن ابن عباس في إحدى الروايات وسعيد بن جبير ، والضحاك ، نحو ذلك .
وقد روى ابن جَرير من حديث وَكِيع ، عن ابن أبي ليلى ، عن المِنْهال ، عن عَبّادِ بن عبدِ اللهِ أو عن زر بن حُبَيش - عن علي فذكره . ورواه من طريق الْعَوْفي وأبي مِجْلَزِ ، عن ابن عباس ، فذكره . ورواه عن سعيد بن جُبَيْرٍ ، وعن مجاهد ، والحسن بن مُسْلِمٍ ، والحكم بن عُتَيْبَةَ وزيدِ بن أَسْلَمَ ، وابنِهِ عبد الرَّحمنِ ، مثل ذلك ، وروي من طريق ابن جُرَيْج ، عن عبد الله بن كَثِير قال : كنَّا نسمع أنه في السفر .
ويُسْتَشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث أبي قِلابة ، عن عَمْرو بن بُجْدَان عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصعيدُ الطَّيِّب طَهُورُ المسلم ، وإن لم تجد{[7566]} الماء عشر حججٍ ، فإذا وجدت الماء فأمْسسْه بشرتَك فإن ذلك خير " {[7567]} .
ثم قال{[7568]} ابن جرير - بعد حكايته القولين - : والأوْلَى قول من قال : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ } إلا مجتازي طريق فيه . وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله : أو { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا{[7569]} } [ المائدة : 6 ] إلى آخره . فكان معلوما بذلك أن قوله : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } لو كان معنيا به المسافر ، لم يكن لإعادة ذكره في قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } معنى مفهوم ، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا ، إلا عابري سبيل . قال : والعابر{[7570]} السبيل : المجتاز مَرّا وقطعا . يقال منه : " عبرت هذا الطريق فأنا أعبُره عبرا وعبورا " ومنه قيل : " عبر فلان النهر " إذا قطعه وجاوزه . ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار : هي عُبْرُ أسفار وعَبْر أسفار ؛ لقوتها على قطع الأسفار .
وهذا الذي نصره هو قولُ الجمهور ، وهو الظاهر من الآية ، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها ، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة ، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا ، والله أعلم .
وقوله : { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ومالك والشافعي : أنه يحرم على الجنب المكث في المسجدِ حتى يغتسل أو يتيمم ، إن عدم الماء ، أو لم يقدر على استعماله بطريقة . وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجدِ ، لما روى{[7571]} هو وسعيد بن منصور في سننه بإسناد صحيح : أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك ؛ قال سعيد بن منصور :
حدثنا عبد العزيز بن محمد - هو{[7572]} الدرَاوَرْدِي - عن هِشَام بنِ سَعْدٍ ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار قال : رأيت رجالا{[7573]} من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون{[7574]} إذا توضؤوا وضوء الصلاة ، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم ، فالله{[7575]} أعلم .
وقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } أما المرض المبيح للتيمم ، فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فواتُ عضو أو شَيْنه أو تطويل البُرء . ومن العلماء من جَوّز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو غسَّان مالكُ بن إسماعيل ، حدثنا قيس عن خَصِيف{[7576]} عن مجاهد في قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } قال : نزلت في رجل من الأنصار ، كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية .
هذا مرسل . والسفر معروف ، ولا فرق فيه بين الطويل والقصير .
وقوله : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } الغائط : هو المكان المطمئن من الأرض ، كنى بذلك عن التغوط ، وهو الحدث الأصغر .
وأما قوله : { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } فقرئ : " لَمَسْتم " و " لامستم " واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك ، على قولين :
أحدهما : " أن ذلك كناية عن الجماع ؛ لقوله { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب : 49 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ } قال : الجماع . ورُوي عن علي ، وأبيّ بن كعب ، ومجاهد ، وطاوس ، والحسن ، وعُبَيد بن عمير ، وسعيد بن جبير ، والشَّعْبي ، وقتادة ، ومقاتل بن حيَّان - نحوُ ذلك .
وقال ابن جرير : حدثني حُمَيد بن مَسْعَدةَ ، حدثنا يزيد بن زُرَيع ، حدثنا شُعبة ، عن أبي بِشْر ، عن سعيد بن جبير قال : ذكروا اللمس ، فقال ناس من الموالي : ليس بالجماع . وقال ناس من العرب : اللمس الجماع : قال : فأتيت ابن عباس فقلت له : إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس ، فقالت الموالي . ليس بالجماع . وقالت العرب : الجماع . قال : من أيّ الفريقين كنت ؟ قلت : كنت من الموالي . قال : غُلب فريقُ الموالي . إن اللمس والمس والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء .
ثم رواه عن ابن بشَّار ، عن غُنْدَر ، عن شعبة - به نحوه . ثم رواه من غير وجه عن سعيد بن جبير ، نحوه .
ومثله قال : حدثني يعقوب ، حدثنا هشيم قال : حدثنا أبو بشر ، أخبرنا{[7577]} سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : اللمس والمس والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني بما يشاء .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، أنبأنا إسحاق الأزرق ، عن سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : الملامسة : الجماع ، ولكن الله كريم يكني بما يشاء .
وقد صح{[7578]} من غير وجه ، عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك . ثم رواه ابن جرير عن بعض من حكاه ابن أبي حاتم عنهم .
ثم قال ابن جرير : وقال آخرون : عنى الله بذلك كل لمس بيد كان أو بغيرها من أعضاء الإنسان ، وأوجب الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئا من جسدها مفضيًا إليه .
ثم قال : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن مُخَارقٍ ، عن طارق{[7579]} عن عبد الله بن مسعود قال : اللمس ما دون الجماع .
وقد رواه من طرق متعددة عن ابن مسعود بمثله . وروي من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : القبلة من المس ، وفيها الوضوء .
وقال : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عُبَيد الله{[7580]} بن عمر ، عن نافع : أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة ، ويرى{[7581]} فيها الوضوء ، ويقول : هي من اللماس .
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا من طريق شعبة ، عن مخارق ، عن طارق ، عن عبد الله قال : اللمس ما دون الجماع .
ثم قال ابن أبي حاتم : ورُوي عن ابن عمر ، وعبيدة ، وأبي عثمان النَّهْدي وأبي عبيدة - يعني ابن عبد الله بن مسعود - وعامر الشَّعْبي ، وثابت بن الحجَّاج ، وإبراهيم النَّخَعي ، وزيد بن أسلم نحو ذلك .
قلت : وروى مالك ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه أنه كان يقول : قبلة الرجل امرأته وجَسَّه بيده من الملامسة ، فمن قَبّل امرأته أو جسها بيده ، فعليه الوضوء .
وروى الحافظ أبو الحسن الدارقُطْني [ في سننه ]{[7582]} عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نحو ذلك . ولكن رَوَيْنا عنه من وجه آخر : أنه كان يقبل امرأته ، ثم يصلي ولا يتوضأ . فالرواية عنه مختلفة ، فيحمل{[7583]} ما قاله في الوضوء إن صح عنه على الاستحباب ، والله أعلم .
والقول بوجوب الوضوء من المس هو قول الشافعي وأصحابه ومالك والمشهور عن أحمد بن حنبل ، رحمهم الله ، قال ناصر هذه المقالة : قد قرئ في هذه الآية { لامَسْتُمُ } { ولمستم } واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد قال ] الله[ {[7584]} تعالى : { وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } [ الأنعام : 7 ] ، أي جسوه{[7585]} وقال [ رسول الله ]{[7586]} صلى الله عليه وسلم لماعز - حين أقر بالزنا يُعرض له بالرجوع عن الإقرار - : " لعلك قبلت أو لمست " {[7587]} وفي الحديث الصحيح : " واليد زناها اللمس " وقالت عائشة ، رضي الله عنها : قَلّ يوم إلا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا ، فيقبّل ويلمس . ومنه ما ثبت في الصحيحين : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة{[7588]} وهو يَرْجع إلى الجس باليد على كلا التفسيرين قالوا : ويطلق في اللغة على الجس باليد ، كما يطلق على الجماع ، قال الشاعر :
وألمستُ كَفي كفَّه أطلب الغِنَى . . .
واستأنسوا أيضا بالحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله{[7589]} بن مهدي وأبو سعيد قالا حدثنا زائدة ، عن عبد الملك بن عمير - وقال أبو سعيد : حدثنا عبد الملك بن عُمَير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله ، ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها ، فليس{[7590]} يأتي الرجل من امرأته شيء إلا أتاه منها ، غير أنه لم يجامعها ؟ قال : فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [ هود : 114 ] قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " توضأ ثم صَلِّ " . قال معاذ : فقلت : يا رسول الله ، أله خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ قال : " بل للمؤمنين عامة " .
ورواه الترمذي من حديث زائدة{[7591]} به ، وقال : ليس بمتصل . وأخرجه النسائي من حديث شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا{[7592]} .
قالوا : فأمره بالوضوء ؛ لأنه لمس المرأة ولم يجامعها . وأجيب بأنه منقطع بين أبي ليلى ومعاذ ، فإنه لم يلقه ، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة للتوبة ، كما تقدم في حديث الصدِّيق [ رضي الله عنه ]{[7593]} ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر الله له " الحديث ، وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله : { ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ[ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ ]{[7594]} } الآية [ آل عمران : 135 ] .
ثم قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى الله بقوله : { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } الجماع دون غيره من معاني اللمس ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ ، ثم قال : حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي قال : أخبرنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل ، ثم يصلي ولا يتوضأ{[7595]} .
ثم قال : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن الأعمش ، عن حبيب ، عن عروة ، عن عائشة ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبّل بعض نسائه ، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ، قلت : من هي إلا أنت ؟ فضحكت .
وهكذا رواه أبو داود والترمذي ، وابن ماجه عن جماعة من مشايخهم ، عن وكيع ، به{[7596]} .
ثم قال أبو داود : روي عن الثوري أنه قال : ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزَنيّ ، وقال يحيى القطَّان لرجل : احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء .
وقال الترمذي : سمعت البخاري يضعف هذا الحديث وقال : حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عُرْوَة .
وقد وقع في رواية ابن ماجه : عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد الطنافسي ، عن وكيع عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة .
وأبلغ من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده ، من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة{[7597]} وهذا نص في كونه عروة بن الزبير ، ويشهد له قوله : من هي إلا أنت ، فضحكت{[7598]} .
لكن روى أبو داود ، عن إبراهيم بن مَخْلد الطَّالْقاني ، عن عبد الرحمن بن مَغْراء ، عن الأعمش قال : حدثنا أصحاب لنا عن عروة المزني عن عائشة{[7599]} فذكره ، والله أعلم .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا أبو زيد عمر بن شَبَّةَ ، عن{[7600]} شهاب بن عبَّاد ، حدثنا مَنْدَل بن علي ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عائشة - وعن أبي رَوْق ، عن إبراهيم التَّيمي ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلةَ بعد الوضوء ، ثم لا يعيد الوضوء{[7601]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن أبي روق الهمْدَاني ، عن إبراهيم التيمي ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ثم صلى ولم يتوضأ .
[ و ]{[7602]} رواه أبو داود والنسائي من حديث يحيى القطان - زاد أبو داود : وابن مهدي - كلاهما عن سفيان الثوري به . {[7603]} ثم قال أبو داود ، والنسائي : لم يسمع إبراهيم التيمي من عائشة .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا سعيد{[7604]} بن يحيى الأموي ، حدثنا أبي ، حدثنا يزيد بن سِنَان ، عن عبد الرحمن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ، ثم لا يفطر ، ولا يحدث وضوءًا{[7605]} .
وقال أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا حفص بن غِياث ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن زينب السَّهْمِية عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يُقَبّل ثم يصلي ولا يتوضأ .
وقد رواه الإمام أحمد ، عن محمد بن فُضَيل ، عن حجاج بن أَرْطَاة ، عن عمرو بن شعيب ، عن زينب السهمية ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، به{[7606]} .
وقوله : { فَإِنْ لَمْ{[7607]} تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية : أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد تطلبه ، فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم . وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع ، كما هو مقرر في موضعه ، كما هو{[7608]} في الصحيحين ، من حديث عِمران بن حصين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في{[7609]} القوم ، فقال : " يا فلان ، ما منعك أن تصلي مع القوم ؟ ألست برجل مسلم ؟ " قال : بلى يا رسول الله ، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء . قال : " عليك بالصعيد ، فإنه يكفيك " . {[7610]}
ولهذا قال تعالى : { فَإِنْ لَمْ{[7611]} تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } فالتيمم في اللغة هو : القصد . تقول العرب : تيممك{[7612]} الله بحفظه ، أي : قصدك . ومنه قول امرئ القيس{[7613]} :
وَلَمَّا رَأتْ{[7614]} أنَّ المَنِية ورِدُها *** وأن الحصَى من تحت أقدامها دَامِ
تيممت العين التي عند ضارج *** يفيء عليها الفيء عَرْمَضها طام
والصعيد قيل : هو كل ما صعد على وجه الأرض ، فيدخل فيه التراب ، والرمل ، والشجر ، والحجر ، والنبات ، وهو قول مالك . وقيل : ما كان من جنس التراب فيختص التراب والرمل والزرنيخ ، والنورة ، وهذا مذهب أبي حنيفة . وقيل : هو التراب فقط ، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما ، واحتجوا بقوله تعالى : { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } [ الكهف : 40 ] أي : ترابا أملس طيبا ، وبما ثبت في صحيح مسلم ، عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء " {[7615]} وفي لفظ : " وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء " . قالوا : فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان ، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه .
والطيب هاهنا قيل : الحلال . وقيل : الذي ليس بنجس . كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه ، من حديث أبي قلابة عن عمرو بن بُجْدان{[7616]} عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصعيد الطيب طهور المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر حجج ، فإذا وجده ، {[7617]} فليمسه بَشرته ، فإن ذلك خير له " .
وقال الترمذي : حسن صحيح : وصححه ابن حبان أيضا{[7618]} ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن أبي هريرة{[7619]} وصححه الحافظ أبو الحسن القطان . وقال ابن عباس : أطيب الصعيد تراب الحرث . رواه ابن أبي حاتم ، ورفعه ابن مَرْدويه في تفسيره{[7620]} .
وقوله : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } التيمم بدل عن الوضوء في التطهر{[7621]} به ، لا أنه بدل منه في جميع أعضائه ، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع ، ولكن{[7622]} اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال .
أحدها - وهو مذهب الشافعي في الجديد - : أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين ؛ لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين ، وعلى ما يبلغ المرفقين ، كما في آية الوضوء ، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين ، كما في آية السرقة : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] قالوا : وحمل ما أطلق هاهنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع{[7623]} الطهورية . وذكر بعضهم ما رواه الدارقطني ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " . ولكن لا يصح ؛ لأن في أسانيده ضعفاء لا يثبت الحديث بهم{[7624]} وروى أبو داود عن ابن عمر - في حديث - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه .
ولكن في إسناده محمد بن ثابت العَبْدي ، وقد ضعفه بعض الحفاظ ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر ، قال البخاري وأبو زرعة وابن عَدِي : هو الصواب . وقال البيهقي : رفع هذا الحديث منكر{[7625]} {[7626]} .
واحتج الشافعي بما رواه عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن عبد الرحمن بن معاوية ، عن الأعرج ، عن ابن الصَّمَّة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه . {[7627]}
وقال ابن جرير : حدثني موسى بن سهل الرملي ، حدثنا نعيم بن حَمَّاد ، حدثنا خارجةُ بن مُصْعب ، عن عبد الله بن عطاء ، عن موسى بن عُقْبة ، عن الأعرج ، عن أبي جُهيم{[7628]} قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول ، فسلمت عليه ، فلم يرد علي حتى فرغ ، ثم قام إلى الحائط{[7629]} فضرب بيديه عليه ، فمسح بهما وجهه ، ثم ضرب بيديه على الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين ، ثم رد علي السلام{[7630]} .
والقول الثاني : إنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين ، وهو القول القديم للشافعي .
والثالث : أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة ؛ قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن الحكم ، عن ذَرّ ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ؛ أن رجلا أتى عمر فقال : إني أجنبت فلم أجد ماء ؟ فقال عمر : لا تصل . فقال عمار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت ، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له ، فقال : " إنما كان يكفيك " . وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض ، ثم نفخ فيها ومسح بها{[7631]} وجهه وكفيه{[7632]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا عفَّان ، حدثنا أبان ، حدثنا قتادة ، عن عَزْرَة{[7633]} عن سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزى ، عن أبيه ، عن عمار ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في التيمم : " ضربة للوجه والكفين " {[7634]} .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد ، حدثنا سليمان الأعمش ، حدثنا شقيق قال : كنت قاعدا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى لعبد الله : لو أن رجلا لم يجد الماء لم يصل ؟ فقال عبد الله : لا . فقال أبو موسى : أما تذكر إذ قال عمَّار لعمر : ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياك في إبل ، فأصابتني جنابة ، فتمرغت في التراب ؟ فلما رجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته ، فضحك وقال : " إنما كان يكفيك أن تقول هكذا " ، وضرب بكفيه إلى الأرض ، ثم مسح كفيه جميعا ، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة ؟ فقال عبد الله : لا جرم ، ما رأيت عمر قنع بذاك قال : فقال له أبو موسى : فكيف بهذه الآية في سورة النساء : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيًدا طَيِّبًا } ؟ قال : فما درى عبد الله ما يقول ، وقال : لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم{[7635]} .
وقال تعالى في آية المائدة : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } [ المائدة : 6 ] ، استدل بذلك الشافعي ، رحمه الله تعالى ، على أنه لا بد في التيمم أن يكون بتراب طاهر له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء ، كما رواه الشافعي بإسناده المتقدم عن ابن الصمة : أنه مَرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلم عليه فلم يرد عليه ، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه ، فضرب بيده عليه ثم مسح بها وجهه وذراعيه .
وقوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } أي : في الدين الذي شَرَعه لكم { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } فلهذا أباح إذا لم تجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَةُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
ولهذا كانت هذه الأمة مختصة بشرعية التيمم دون سائر الأمم ، كما ثبت في الصحيحين ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطِيتُ خمسا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ قَبْلي :
نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسِيرةَ شهر وجعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل - وفي لفظ : فعنده طَهُورُه مسجده - وأحِلَّتْ لي الغنائم ولم تَحِلَّ لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة " {[7636]} .
وتقدم في حديث حذيفة عند مسلم : " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجدا ، وتربتها{[7637]} طهورا إذا لم نجد الماء " .
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } أي : ومن عفوه عنكم وغَفره لكم أن شرع{[7638]} التيمم ، وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم{[7639]} الماء توسعة عليكم ورخصة لكم ، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول ، أو جنابة حتى يغتسل ، أو حدث حتى يتوضأ ، إلا أن يكون مريضا أو عادما للماء ، فإن الله ، عز وجل ، قد أرخص في التيمم والحالة هذه ، رحمة بعباده ورأفة بهم ، وتوسعة عليهم ، ولله الحمد والمنة .
وإنما ذكرنا ذلك هاهنا ؛ لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة ، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحتم تحريم الخمر ، والخمر إنما حرم بعد أحد ، يقال : في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير بعد أحد بيسير ، وأما المائدة فإنها من أواخر ما نزل ، ولا سيما صدرها ، فناسب أن يذكر السبب هاهنا ، وبالله الثقة .
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها استعارت من أسماء قلادة ، فهلكت ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا في طلبها فوجدوها ، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء ، فصلوها بغير وضوء ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية التيمم ، فقال أسيد بن الحضير لعائشة : جزاك الله خيرا ، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا{[7640]} .
طريق أخرى : قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أنبأنا مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا في البيداء{[7641]} - أو بذات الجيش - انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ! فجاء أبو بكر ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ! قالت عائشة : فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي ، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ماء ، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا ، فقال أسيد بن الحضير : ما هي بأول بَركتكم يا آل أبي بكر . قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه ، فوجدنا العقد تحته .
وقد رواه البخاري أيضًا عن قُتيبة وإسماعيل . ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى ، عن مالك{[7642]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن صالح قال : قال ابن شهاب : حدثني عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن عمار بن ياسر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بأولات الجيش ومعه عائشة زوجته ، فانقطع عقد لها من جَزْع ظَفَار ، فحبس الناس ابتغاء عقدها ، وذلك حتى أضاء الفجر ، وليس مع الناس ماء ، فأنزل الله ، عز وجل ، على رسوله صلى الله عليه وسلم رخصة التطهر بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم الأرض ، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا ، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ، ومن بطون أيديهم إلى الآباط{[7643]} .
وقد رواه ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا صيفي ، عن ابن أبي ذئب ، ] عن الزُّهْري[ {[7644]} عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي اليقظان قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهلك عقد لعائشة ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الفجر{[7645]} فتغيّظ أبو بكر على عائشة ] رضي الله عنها[ {[7646]} فنزلت عليه الرخصة : المسح بالصعيد الطيب . فدخل أبو بكر فقال لها : إنك لمباركة ! نزلت فيك رخصة ! فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا ، وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط . {[7647]}
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا الليث حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا العلاء{[7648]} بن أبي سوية ، حدثني الهيثم عن زُرَيق{[7649]} المالكي - من بني مالك بن كعب بن سعد ، وعاش مائة وسبع عشرة سنة - عن أبيه ، عن الأسلع بن شريك قال : كنت أُرَحِّل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة ، فكرهت أن أرحل ناقتة وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض ، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ، ثم رضَفت أحجارًا فأسخنت بها ماء ، فاغتسلت . ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال : " يا أسلع ، مالي أرى رحلتك تغيرت ؟ " قلت : يا رسول الله ، لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال : " ولم ؟ " قلت : إني أصابتني جنابة ، فخشيت القُرَّ على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ، ورضفت أحجارًا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به ، فأنزل الله تعالى : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بوجوهكم وأيديكم ] إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } وقد روي من وجه آخر عنه .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } أي لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من نحو نوم أو خمر حتى تنتهوا وتعلموا ما تقولون في صلاتكم . روي ( أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه صنع مادبة ودعا نفرا من الصحابة -حين كانت الخمر مباحة- فأكلوا وشربوا حتى ثملوا ، وجاء وقت صلاة المغرب فتقدم أحدهم ليصلي بهم فقرأ : أعبد ما تعبدون ) . فنزلت . وقيل أراد بالصلاة مواضعها وهي المساجد وليس المراد منه نهي السكران عن قربان الصلاة ، وإنما المراد النهي عن الإفراط في الشرب والسكر ، من السكر وهو السد . وقرئ { سكارى } بالفتح وسكرى على أنه جمه كهلكى . أو مفرد بمعنى وأنتم قوم سكرى ، أو جماعة سكرى وسكرى كحبلى على أنها صفة للجماعة . { ولا جنبا } عطف على قوله { وأنتم سكارى } إذ الجملة في موضع النصب على الحال ، والجنب الذي أصابته الجنابة ، يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع ، لأنه يجري مجرى المصدر . { إلا عابري سبيل } متعلق بقوله { ولا جنبا } ، استثناء من أعم الأحوال أي لا تقربوا الصلاة جنبا في عامة الأحوال إلا في السفر وذلك إذا لم يجد الماء وتيمم ، ويشهد له تعقيبه بذكر التيمم ، أو صفة لقوله { جنبا } أي جنبا غير عابري سبيل . وفيه دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث . ومن فسر الصلاة بمواضعها فسر عابري سبيل بالمجتازين فيها ، وجوز الجنب عبور المسجد . وبه قال الشافعي رضي الله عنه . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : لا يجوز له المرور في المسجد إلا إذا كان فيه الماء أو الطريق . { حتى تغتسلوا } غاية النهي عن القربان حال الجنابة ، وفي الآية تنبيه على أن المصلي ينبغي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه ، ويزكي نفسه عما يجب تطهيرها عنه . { وإن كنتم مرضى } مرضا يخاف معه من استعمال الماء ، فإن الواجد كالفاقد . أو مرضا يمنعه عن الوصول إليه . { أو على سفر } لا تجدونه فيه . { أو جاء أحد منكم من الغائط } فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين ، وأصل الغائط المكان المطمئن من الأرض . { أو لامستم النساء } أو ما مسستم بشرتهن ببشرتكم ، وبه استدل الشافعي على أن اللمس ينقض الوضوء . وقيل : أو جامعتموهن . وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي المائدة " لمستم " ، واستعماله كناية عن الجماع أقل من الملامسة . { فلم تجدوا ماء } فلم تتمكنوا من استعماله ، إذ الممنوع عنه كالمفقود . ووجه هذا التقسيم أن المترخص بالتيمم إما محدث أو جنب ، والحالة المقتضية له في غالب الأمر مرض أو سفر . والجنب لما سبق ذكره اقتصر على بيان حاله والمحدث لما لم يجر ذكره ذكر من أسبابه ما يحدث بالذات وما يحدث بالعرض ، واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل حال الجنب وبيان العذر مجملا فكأنه قيل : وإن كنتم جنبا مرضى أو على سفر أو محدثين جئتم من الغائط أو لامستم فلم تجدوا ماء { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } . أي فتعمدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا . ولذلك قالت الحنفية : لو ضرب المتيمم يده على حجر صلد ومسح به أجزأه . وقال أصحابنا لا بد من أن يعلق باليد شيء من التراب لقوله تعالى في المائدة { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } أي بعضه ، وجعل من لابتداء الغاية تعسف إذ لا يفهم من نحو ذلك إلا التبعيض ، واليد اسم للعضو إلى المنكب ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه ، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ها هنا { وأيديكم إلى المرافق } . { إن الله كان عفوا غفورا } فلذلك يسر الأمر عليكم ورخص لكم .
يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون }
هذه الآية استئناف لبيان حكمين يتعلّقان بالصلاة ، دعا إلى نزولها عقب الآيات الماضية أنّه آن الأوان لتشريع هذا الحكم في الخمر حينئذ ، وإلى قَرنه بحكم مقرّر يتعلّق بالصلاة أيضاً . ويظهر أنّ سبب نزولها طرأ في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها ، فوقعت في موقعِ وقت نزولها وجاءت كالمعترضة بين تلك الآيات . تضمّنت حكماً أوَّلَ يتعلّق بالصلاة ابتداء ، وهو مقصود في ذاته أيضاً بحسب الغاية ، وهو قوله : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } ، ذلك أنّ الخمر كانت حَلالا لم يحرّمها الله تعالى ، فبقيت على الإباحة الأصلية ، وفي المسلمين من يشربها . ونزل قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } [ البقرة : 219 ] في أول مدّة الهجرة فقال فريق من المسلمين : نحن نشربها لمنافعها لا لإثْمها ، وقد علموا أنّ المراد من الإثم الحرج والمضرّة والمفسدة ، وتلك الآية كانت إيذانا لهم بأنّ الخمر يوشك أن تكون حراماً لأنّ ما يشتمل على الإثم مُتّصف بوصف مناسب للتحريم ، ولكن الله أبقى إباحتها رحمة لهم في معتادهم ، مع تهيئة النفوس إلى قبول تحريمها ، فحدث بعد ثلاث سنين ما رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا خمراً وحضرت الصلاة فقدّموني فقرأتُ : قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .
والقرب هنا مستعمل في معناه المجازي وهو التلبّس بالفعل ، لأنّ ( قَرُب ) حقيقة في الدنوّ من المكان أو الذات يقال : قرب منه بضم الراء وقرِبه بكسر الراء وهما بمعنى ، ومن الناس من زعم أنّ مكسور الراء للقرب المجازي خاصّة ، ولا يصحّ .
وإنّما اختير هذا الفعل دون لا تُصَلُّوا ونحوه للإشارة إلى أنّ تلك حالة منافية للصلاة ، وصاحبُها جدير بالابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام ، ومن هنا كانت مؤذنة بتغيّر شأن الخمر ، والتنفير منها ، لأنّ المخاطبين يومئذ هم أكمل الناس إيماناً وأعلقهم بالصلاة ، فلا يرمُقون شيئاً يمنعهم من الصلاة إلاّ بعَين الاحتقار . ومن المفسّرين مَن تأوّل الصلاة هنا بالمسجد من إطلاق اسم الحالّ على المحلّ كما في قوله تعالى : { وصلوات ومساجد } [ الحج : 40 ] ، ونقل عن ابن عباس ، وابن مسعود ، والحسن قالوا : كان جماعة من الصحابة يشربون الخمر ثم يأتون المسجد للصلاة مع رسول الله فنهاهم الله عن ذلك ولا يخفى بعده ومخالفته لمشهور الآثار .
وقوله : { حتى تعلموا ما تقولون } غاية للنهي وإيماء إلى علّته ، واكتفى بقوله ( تقولون ) عن { تفعلون } لظهور أنّ ذلك الحدّ من السكر قد يفضي إلى اختلال أعمال الصلاة ، إذ العمل يسرع إليه الاختلال باختلال العقل قبل اختلال القول .
وفي الآية إيذان بأنّ السكر الخفيف لا يمنع الصلاة يومئذ ؛ أو أريد من الغاية أنّها حالة انتهاء السكر فتبقى بعدها النشوة . وسكارى جمع سكران ، والسكران من أخَذ عقله في الانغلاق ، مشتقّ من السَّكْر ، وهو الغلق ، ومنه سكْر الحوض وسكْر الباب { وسكرت أبصارنا } [ الحجر : 15 ] .
ولمّا نزلت هذه الآية اجتنب المسلمون شرب الخمر في أوقات الصلوات فكانوا لا يشربون إلاّ بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح ، لبعد ما بين هاتين الصلاتين وبين ما تليانهما ، ثم أكمل مع تحريم قربان الصلاة في حالة السكر تحريم قربانها بدون طهارة .
{ ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جا أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا }
عطف على جملة { وأنتم سكارى } لأنّا في محلّ الحال ، وهذا النصب بعد العطف دليل بيِّنٌ على أنّ جملة الحال معَتبرة في محلّ نصب .
والجنُب فُعُل ، قيل : مصدر ، وقيل : وصف مثل أُجُد ، وقد تقدّم الكلام فيه آنفاً عند قوله : { والجار الجنب } [ النساء : 36 ] ، والمراد به المباعد للعبادةِ من الصلاة إذا قارف امرأته حتى يغتسل .
ووصفُ جنُب وصفٌ بالمصدر فلذلك لم يجمع إذْ أخبر به عن جمع ، مِن قوله : { وأنتم سكارى } . وإطلاق الجنابة على هذا المعنى من عهد الجاهلية ، فإنّ الاغتسال من الجنابة كان معروفاً عندهم ، ولعلّه من بقايا الحنيفية ، أو ممّا أخذوه عن اليهود ، فقد جاء الأمر بغسل الجنابة في « الاصحاح » 15 من سفر اللاويين من التوراة . وذكر ابن إسحاق في « السيرة » أنّ أبا سفيان ، لما رجع مهزوماً من بدر ، حلف أن لا يمسّ رأسَه غسلٌ من جنابة حتّى يغزوَ محمّداً . ولم أقف على شيء من كلام العرب يدلّ على ذكر غسل الجنابة .
والمعنى لا تُصَلُّوا في حال الجنابة حتّى تغتسلوا إلخ . والمقصود من قوله : { ولا جنباً } التمهيد للتخلّص إلى شرع التَّيمّم ، فإنّ حكم غسل الجنابة مقرّر من قبل ، فذكره هنا إدماج . والتيمّم شرع في غزوة المُرَيْسيع على الصحيح ، وكانت سنة ستّ أو سنة خمسسٍ على الأصحّ . وظاهر حديث مالك عن عائشة أنّ الآية التي نزلت في غزوة المرَيْسيع هي آية التيمّم ، فيظهر أن تكون هذه الآية التي في سورة النساء لأنّها لم يذكر منها إلاّ التيمّم . ووقع في حديث عمرو عن عائشة أنّ الآية التي نزلت هي قوله : { يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } التي في سورة المائدة ( 6 ) ، أخرجه البخاري وقد جزم القرطبي بأنّ الآية التي نزلت في غزوة المريسيع هي آية سورة النساء ، قال : لأنّ آية سورة المائدة تسمّى آية الوضوء . وكذلك الواحدي أورد في أسباب النزول حديث عائشة في سبب نزول آية سورة النساء . وقال ابن العربي هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء لا نعلم أيّ الآيتين عنت عائشة .
وسورة المائدة قيل : نزلت قبل سورة النساء ، وقيل بعدها ، والخطب سهل ، والأصحّ أنّ سورة النساء نزلت قبل سورة المائدة .
والاستثناء في قوله : { إلا عابري سبيل } استثناء من عموم الأحوال المستفادِ من وقوع ( جنبا ) ، وهو حال نكرة ، في سياق النفي . وعابر السبيل ، في كلام العرب : المسافر حين سيره في سفره ، مشتقّ من العبر وهو القطع والاجتياز ، يقال : عبر النهر وعبر الطريق . ومن العلماء من فسّر { عابري سبيل } بمارّين في طريق ، وقال : المراد منه طريق المسجد ، بناء على تفسير الصلاة في قوله : { لا تقربوا الصلاة } بالمسجد ، وجعلوا الآية رخصة في مرور الجنب في المسجد إذا كان قصده المرور لا المكث ، قاله الذين تأوّلوا الصلاة بالمسجد . ونسب أيضاً إلى أنس بن مالك ، وأبي عبيدة ، وابن المسّيب ، والضحّاك ، وعطاء ، ومجاهد ، ومسروق ، والنخعي ، وزيد بن أسْلم ، وعمرو بن دينار ، وعكرمة ، وابن شهاب ، وقتادة ، قالوا : كان ذلك أيام كان لكثير من المهاجرين والأنصار أبواب دُور في المسجد ، ثم نسخ ذلك بعدَ سدّ الأبواب كلّها إلاّ خوخة أبي بكر ، فكان المرور كذلك رخصة للنبيء صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر ، وفي رواية ولعلي ، وقيل : أبقيت خوخة بنت عليّ في المسجد ، ولم يصحّ .
وفائدة هذا الاستثناء عند من فسّر { تقربوا الصلاة } بدخول المسجد ، وفسّر { عابري سبيل } بالمارّين في المسجد ظاهرة ، وهو استثناء حقيقي من عموم أحوال الجنب باستثناء عابري السبيل . وعابرُ السبيل المأخوذ من الاستثناء مطلق ، وهو عند أصحاب هذا المحمل باق على إطلاقه لا تقييد فيه ، وأمّا عند الجمهور الذين حملوا الآية على ظاهرها في معنى تقربوا الصلاة ، وفي معنى عابري السبيل فلا تظهر له فائدة ، للاستغناء عنه بقوله بعده { أو على سفر } ولأنّ في عموم الحصر تخصيصاً ، فالذي يظهر لي أنّه إنّما قدّم هنا لأنّه غالب الأحوال التي تحول بين المرء وبين الاغتسال من جهة حاجة المسافر استبقاءَ الماء . ولندور عروض المرض . والاستثناء على محمل الجمهور يحتمل أنْ يكون متّصلا عند من يرى المتيمّم جنباً ، ويرى التيمّم غير رافع للحدث ، ولكنّه مبيح للصلاة للضرورة في الوقت ، وهذا قول الشافعي ، فهو عنده بدل ضروري يقدّر بقدر الضرورة ، ودَليله ظاهر الاستثناء ، ويحتمل أن يكون منقطعاً عند من يرى المتيمّم غير جنب ، ويرى التيمّم رافعاً للحدث حتّى ينتقض بناقض ويزول سببه . وهذا قول أبي حنيفة ، فلذلك إذا تيمّم الجنب وصلّى وصار منه حدث ناقض للوضوء يتوضّأ لأنّ تيمّمه بدل عن الغسل مطلقاً ، وهذا هو الظاهر بحسب المعنى وليس في السنّة ما يقتضي خلافه . وعن مالك في ذلك قولان : فالمشهور من رواية ابن القاسم أنّ التيمّم مبيح للصلاة وليس رافعاً للحدث ، فلذلك لا يصلّي المتيمّم به إلاّ فرضاً واحداً ، ولو تيمّم لجنابة لعذر يمنع من الغسل وانتقض وضوءه تيمّم عن الوضوء .
وعن مالك ، في رواية البغداديين : أنّ المريض الذي لا يقدر على مسّ الماء يتيمّم ويصلّي أكثر من صلاة ، حتّى ينتقض تيمّمه بناقض الوضوء ، وكذلك فيمن ذكر فوائت يصلّيها بتيمّم واحد ، فعلى هذا ليس تجديد التيمّم لغيرهما إلاّ لأنَّه لا يدري لعلّه يجد الماء فكانت نيّة التيمّم غيرَ جازمة في بقائه ، ولم ينقل عن مالك قول بأنّ المتيمّم للجنابة بعذر مانع من الغسل إذا انتقض وضوءه يتوضأ .
وفي مفهوم هذا الاستثناء ، عند القائلين بالمفاهيم من الجمهور ، على هذا المحمل تفصيل . فعابر السبيل مُطلق قيده قوله : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وبقي عموم قوله { ولا جنباً } في غير عابر السبيل ، لأنّ العامّ المخصوص يبقى عامّا فيما عدا ما خُصّص ، فخَصَّصه الشرط تخصيصاً ثانياً في قوله : { وإن كنتم مرضى } . ثم إن كان قد تقرّر عند المسلمين أنّ الصلاة تقع بدون طهارة يبق قوله : { إلا عابري سبيل } مجملاً لأنّهم يترقّبون بيانَ الحكم في قربان الصلاة على غير طهارة للمسافر ، فيكون في قوله : { وإن كنتم مرضى أو على سفر } بيان لهذا الإجمال ، وإن كان ذلك لم يخطر ببالهم فلا إجمال ، ويكون قوله : { وإن كنتم مرضى أو على سفر } استئنافا لأحكام التيمّم .
وتقديم المُستثنى في قوله : { إلا عابري سبيل } قبل تمام الكلام المقصود قصره بقوله : { حتى تغتسلوا } للاهتمام وهو جار على استعمال قليل ، كقول موسى بن جابر الحنفي أموي :
لاَ أشتهي يا قوم إلاَّ كارها *** بابَ الأمير ولا دفاع الحاجب
وقوله : { حتى تَغْتَسِلُواْ } غاية للنهي عن الصلاة إذا كانوا جنباً ، فهو تشريع للغسل من الجنابة وإيجاب له ، لأنّ وجوب الصلاة لا يسقط بحال ، فلمّا نهوا عن اقترابها بدون الغسل علم من ذلك فرض الغسل . والحكمة في مشروعية الغسل النظافة ، ونيطَ ذلك بأداء الصلاة ليكون المصلّي في حالة كمال الجسد ، كما كان حينئذ في حال كمال الباطن بالمناجاة والخضوع . ومن أبدع الحِكم الشرعية أنّها لم تنط وجوب التنظّف بحال الوسخ لأنّ مقدار الحال من الوسخ الذي يستدعي الاغتسال والتنظف ممّا تختلف فيه مدارك البشر في عوائدهم وأحوالهم ، فنيطَ وجوب الغسل بحالة لا تنفكّ عن القوة البشرية في مدّة متعَارف أعمار البشر ، وهي حالة دفع فواضل القوة البشرية ، وحيث كان بَيْن تلك الحالة وبين شدّة القوّة تناسب تامّ ، إذ بمقدار القوة تندفع فضلاتها ، وكان أيضاً بين شدّة القوة وبين ظهور الفضلات على ظاهر البدن المعبّر عنها بالوسخ تناسبٌ تامّ ، كان نوْط الاغتسال بالجنابة إناطة بوصف ظاهر منضبط فجُعل هو العلّة أو السبب ، وكان مع ذلك محصّلا للمناسبة المقتضية للتشريع ، وهي إزالة الأوساخ عند بلوغها مقدارا يناسب أن يزال مع جعل ذلك مرتبطاً بأعظم عبادة وهي الصلاة ، فصارت الطهارة عبادة كذلك ، وكذلك القول في مشروعية الوضوء ، على أنّ في الاغتسال من الجنابة حكمة أخرى ، وهي تجديد نشاط المجموع العصبي الذي يعتريه فتورٌ باستفراغ القوة المأخوذة من زبد الدم ، حسبما تفطّن لذلك الأطباء فقُضيت بهذا الانضباط حِكَمٌ عظيمة .
ودلّ إسناد الاغتسال إلى الذوات في قوله : { حتى تغتسلوا } على أنّ الاغتسال هو إحاطة البدن بالماء ، وهذا متّفق عليه ، واختلف في وجوب الدلك أي إمرار اليد على أجزاء البدن : فشرطه مالك رحمه الله بناء على أنّه المعروف من معنى الغسل في « لسان العرب » ، ولأنّ الوضوء لا يجزىء بدون ذلك باتّفاق ، فكذلك الغسل .
وقال جمهور العلماء : يجزىء في الغسل إحاطة البدن بالماء بالصبّ أو الانغماس ؛ واحتجّوا بحديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما في غسل النبي صلى الله عليه وسلم أنّه أفاض الماء على جسده ، ولا حجّة فيه لأنّهما لم تذكرا أنّه لم يتدلّك ، ولكنّهما سكتتا عنه ، فيجوز أن يكون سكوتهما لعلمهما بأنّه المتبادر ، وهذا أيضاً رواية عن مالك رواها عنه أبو الفرج ، ومروان بن محمد الطاطري ، وهي ضعيفة .
وقوله : { وإن كنتم مرضى } إلخ ذكرُ حالةِ الرخصة في ترك الاغتسال وترك الوضوء الذي لم يذكر في هذه السورة ، وذُكر في سورة المائدة ، وهي نازلة قبل هذه السورة . فالمقصود بيان حكم التيمّم بحذافره . وفي جمع هذه الأشياء في نسق حصل هذا المقصود ، وحصل أيضاً تخصيص لعموم قوله : { ولا جنباً } كما تقدّم .
وقوله : { أو على سفر } بيان للإجمال الواقع في قوله : { إلا عابري سبيل } إن كان فيه إجمال ، وإلاّ فهو استئناف حكم جديد كما تقدّم .
وقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } زيادة على حكم التيمّم الواقع بدلا من الغسل ، بذكر التيمّم الواقع بدلا عن الوضوء إيعاباً لنوعَي التيمّم . وغير ذلك من أسبابه يؤخذ بالقياس على المذكور . فالمريض أريد به الذي اختلّ نظام صحتِه بحيث صار الاغتسال يضرّه أو يزيد عِلَّتَه . { أو جاء . . . من الغائط } كناية عن قضاء الحاجة البشرية ، شاع في كلامهم التكنّي بذلك لبشاعة الصريح .
والغائط : المنخفض من الأرض ، وما غاب عن البصر ، يقال : غَاط في الأرض إذا غاب يغوط ، فهمزته منقلبة عن الواو ، وكانت العرب يذهبون عند قضاء الحاجة إلى مكان منخفض من جهة الحي بعيد عن بيوت سكناهم ، فيكنون عنه : يقولون ذهب إلى الغائط أو تغوّط ، فكانت كناية لطيفة ثم استعملها الناس بعد ذلك كثيراً حتّى ساوت الحقيقة فسمَجَت ، فصار الفقهاء يطلقونه على نفس الحدث ويعلّقونه بأفعال تناسب ذلك .
وقوله : { أو لامستم النساء } قرىء ( لامستم ) بصيغة المفاعلة ، وقرىء ( لمستم ) بصيغة الفعل كما سيأتي ، وهما بمعنى واحد على التحقيق . ومن حاول التفصيل لم يأت بما فيه تحصيل . وأصل اللّمس المباشرة باليد أو بشيء من الجسد ، وقد أطلق مجازاً وكناية على الافتقاد ، قال تعالى :
{ وأنا لمسنا السماء } [ الجن : 8 ] وعلى النزول ، قال النابغة :
ليَلْتَمِسَنْ بالجيش دارَ المحارب
وعلى قربان النساء ، لأنّه مرادف المسّ ، ومنه قولهم : « فلانة لا تردّ يد لامس » ، ونظيره { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 237 ] . والملامسة هنا يحتمل أن يكون المراد منها ظاهرها ، وهو الملامسة بمباشرة اليد أو بعضضِ الجسد جسدَ المرأة ، فيكون ذكر سببا ثانياً من أسباب الوضوء التي توجب التيمّم عند فقد الماء ، وبذلك فسّره الشافعي ، فجعل لمس الرجل بيده جسد امرأته موجباً للوضوء ، وهو محمل بعيد ، إذ لا يكون لمس الجسد موجباً للوضوء وإنَّما الوضوء ممّا يخرج خروجاً معتاداً . فالمحمل الصحيح أنّ الملامسة كناية عن الجماع . وتعديد هذه الأسباب لجمع ما يغلب من موجبات الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى ، وإنّما لم يستغن عن { لمستم النساء } بقوله آنفاً { ولا جنباً } لأنّ ذلك ذكر في معرض الأمر بالاغتسال ، وهذا ذكر في معرض الإذن بالتيمّم الرخصة . والمقام مقام تشريع يناسبه عدم الاكتفاء بدلالة الالتزام ، وبذلك يكون وجه لذكره وجيه . وأمّا على تأويل الشافعي ومن تابعه فلا يكون لذكر سبب ثان من أسباب الوضوء كبير أهمية . وإلى هذا مال الجمهور فلذلك لم يجب عند مالك وأبي حنيفة الوضوء من لمس الرجل امرأته ما لم يخرج منه شيء ، إلاّ أنّ مالكاً قال : إذا التذ اللامس أو قَصَد اللذّة انتقض وضوءه ، وحمل الملامسة في هذه الآية على معنييها الكنائي والصريح ، لكن هذا بشرط الالتذاذ ، وبه قال جمع من السلف ، وأرى مالكاً اعتمد في هذا على الآثار المروية عن أيّمة السلف ، ولا أراه جعله المراد من الآية .
وقرأ الجمهور { لامستم } بصيغة المفاعلة ؛ وقرأه حمزة والكسائي وخلف { لمستم } بدون ألف .
وقوله : { فلم تجدوا ماء } عطف على فعل الشرط ، وهو قيد في المسافر ، ومن جاء من الغائط ، ومن لامس النساء ، أمّا المريض فلا يتقيّد تَيمّمه بعدم وجدان الماء لأنّه يتيمّم مطلقاً ، وذلك معلوم بدلالة معنى المرض ، فمفهوم القيد بالنسبة إليه معطّل بدلالة المعنى ، ولا يكون المقصود من المريض الزمن ، إذ لا يعدم الزمن مناوِلاً يُناوله الماء إلاّ نادرا .
وقوله { فتيمموا } جواب الشرط والتيمّم القصد والصعيد وجه الأرض ، قال ذو الرمّة يصف خشفا من بقر الوحش نائماً في الشمس لا يكاد يفيق :
كأنَّه بالضحى تَرْمِي الصعيدَ به *** دَبَّابَةٌ في عظام الرأس خُرطوم
والطيّب : الطاهر الذي لم تلوّثه نجاسة ولا قذر ، فيشمل الصعيدُ الترابَ والرملَ والحجارة ، وإنّما عبّر بالصعيد ليصرف المسلمين عن هوس أن يتطلّبوا التراب أو الرمل ممّا تحت وجه الأرض غلوّا في تحقيق طهارته .
وقد شُرع بهذه الآية حكم التيمّم أو قرّر شرعه السابق في سورة المائدة على الأصحّ ، وكان شرع التيمم سنة ستّ في غزوة المريسيع ، وسبب شرعه ما في « الصحيح » عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله في بعض أسفاره حتى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناسُ إلى أبي بكر الصديق فقالوا : ألا ترى إلى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله والناسسِ وليسوا على ماء وليس معهم ماء .
فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : حَبَسْتِ رسول الله والناسَ وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فعاتَبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرّك إلا مَكانُ رسول الله على فَخِذي ، فقام رسول الله حين أصبح على غير ماء ، فأنزل الله تعالى آية التيمّم . فقال أسَيْد بنُ الحُضَيْر : ما هي بأوّلِ بركتكم يا آلَ أبي بكر ، فوالله ما نَزل بكِ أمْر تكرهينَه إلاّ جعل الله ذلك لكِ وللمسلمين فيه خيراً . قالت : فبعثْنَا البعيرَ الذي كنتُ عليه فأصبنا العِقْد تحته .
والتيمّم من خصائص شريعة الإسلام كما في حديث جابر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أعْطِيتُ خمسا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحد قبلي فذكر منها وجُعِلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً » . والتيمّم بدل جعله الشرع عن الطهارة ، ولم أر لأحد من العلماء بيانا في حكمة جعل التيمّم عوضاً عن الطهارة بالماء وكان ذلك من همّي زمنا طويلاً وقت الطلب ثم انفتح لي حكمة ذلك .
وأحسب أنّ حكمة تشريعه تقرير لزوم الطهارة في نفوس المؤمنين ، وتقرير حُرمة الصلاة ، وترفيع شأنها في نفوسهم ، فلم تُترك لهم حالة يعدّون فيها أنفسهم مُصلّين بدون طهارة تعظيماً لمناجاة الله تعالى ، فلذلك شَرع لهم عملا يشبه الإيماء إلى الطهارة ليستشعروا أنفسهم متطهّرين ، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صَعيدَ الأرض التي هي منبع الماء ، ولأنّ التراب مستعمل في تطهير الآنية ونحوها ، ينظّفون به ما علق لهم من الأقذار في ثيابهم وأبدانهم وماعونهم ، وما الاستجمار إلاّ ضرب من ذلك ، مع ما في ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده وتذكيره بأنّه مطالب به عند زوال مانعه ، وإذ قد كان التيمّم طهارة رمزية اقتنعت الشريعة فيه بالوجه والكفين في الطهارتين الصغرى والكبرى ، كما دلّ عليه حديث عمّار بن ياسِر ، ويؤيّد هذا المقصد أنّ المسلمين لما عَدِموا الماء في غزوة المريسيع صلَّوْا بدون وضوء فنزلت آية التيمّم . هذا منتهى ما عرض لي من حكمة مشروعيّة التيمّم بعد طول البحث والتأمّل في حكمة مقنعة في النظر ، وكنت أعدّ التيمّم هو النوع الوحيد بين الأحكام الشرعية في معنى التعبّدِ بنَوعه ، وأمّا التعبّد ببعض الكيفيات والمقادير من أنواع عبادات أخرى فكثير ، مثل عدد الركعات في الصلوات ، وكأنَّ الشافعي لمّا اشترط أن يكون التيمّم بالتراب خاصّة وأن ينقل المتيمّم منه إلى وجهه ويديه ، راعى فيه معنى التنظيف كما في الاستجمار ، إلاّ أنّ هذا القول لم ينقل عن أحد من السلف ، وهو ما سبق إلى خاطر عَمّار بن ياسر حين تمرّغ في التراب لمّا تعذّر عليه الاغتسال ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يكفيك من ذلك الوجهُ والكفَّان " . ولأجل هذا أيضاً اختلف السلف في حكم التيمّم ، فقال عُمر وابن مسعود : لا يقع التيمّم بدلا إلاّ عن الوضوء دون الغسل ، وأنّ الجنب لا يصلّي حتّى يَغتسل سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر . وقد تناظر في ذلك أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود : روى البخاري في كتاب التيمّم قال أبو موسى لا بن مسعود : أرأيتَ إذا أجنب فلم يجد الماء كيف يصنع ؟ قال عبدُ اللَّه : لا يُصلّي حتّى يجد الماء . فقال أبو موسى : فكيف تصنع بقول عمّار حين قال له النبي : كان يكفيك هكذا ، فضرب بكفّيه الأرض ثم مسح بهما وجهه وكفّيه ، قال ابن مسعود : ألم تر عُمَرَ لم يقنَعْ منه بذلك ، قال أبو موسى . فدَعْنَا من قول عمّار ، كيف تصنع بهذه الآية { وإن كنتم مرضى أو على سفر } فما درى عبد الله ما يقول ، فقال : إنَّا لو رخَّصْنا لهم في هذا لأوْشَكَ إذا بَرَد على أحدهم الماءُ أن يدَعَه ويتيمّم ، ولا شك أنّ عمر ، وابن مسعود ، تأوّلا آية النساء فجعلا قوله : { إلا عابري سبيل } رخصة لمرور المسجد ، وجعلا { أو لامستم النساء } مراداً به اللّمس الناقض للوضوء على نحو تأويل الشافعي ، وخالف جميعُ علماء الأمّة عمرَ وابنَ مسعود في هذا ، فقال الجمهور : يتيمّم فاقد الماء ومن يخاف على نفسه الهلاك أو المرض أو زيادة المرض ولو نَزْلَة أو حمّى . وقال الشافعي : لا يتيمّم إلاّ فاقد الماء أو من يخاف على نفسه التلف دون المرض أو زيادته ، لأنّ زيادة المرض غير محقّقة ، ويردّه أنّ كلا الأمرين غير محقّق الحصول ، وأنّ الله لم يكلّف الخلق بما فيه مشقّة . وقد تيمّم عَمْرو بن العاص رضي الله عنه في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس ، « فذكروا ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم فسأله فقال عمرو : إني سمعت الله يقول : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً } [ النساء : 29 ] فضحك النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه .
وقوله : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } جعل التيمّم قاصرا على مسح الوجه واليدين ، وأسقط مسح ما سواهما من أعضاء الوضوء بَلْهَ أعضاء الغسل ، إذ ليس المقصود منه تطهيراً حسيَّا ، ولا تجديد النشاط ، ولكن مجرّد استحضار استكمال الحالة للصلاة ، وقد ظنّ بعض الصحابة أنّ هذا تيمّم بدل عن الوضوء ، وأنّ التيمّم البدل عن الغسل لا يجزىء منه إلاّ مسح سائر الجسد بالصعيد ، فعلّمه النبي صلى الله عليه وسلم أن التيمّم للجنابة مثل التيمّم للوضوء ، فقد ثبت في « الصحيح » عن عمّار بن ياسر ، قال : كنت في سفر فأجنبت فتمعَّكْت في التَراب ( أيْ تمرّغت ) وصلّيت فأتيت النبي فذكرت ذلك فقال « يكفيك الوجه والكفان » وقد تقدّم آنفاً .
والباء للتأكيد مثل : « وهزّي إليك بجذع النخلة » وقول النابغة يرثي النعمان بن المنذر :
لكَ الخيرُ إن وارتْ بك الأرضُ واحدا *** وأصْبَحَ جَدُّ الناس يظْلَعَ عَاثِرا
أراد إن وارتْك الأرض مواراة الدفن . والمعنى : فامسحوا وجوهكم وأيديكم ، وقد ذُكرت هذه الباء مع الممسوح في الوضوء ومع التيمّم للدلالة على تمكّن المسح لئلا تزيد رخصةٌ على رخصة .
وقوله : { إن الله كان عفواً غفوراً } تذييل لحكم الرخصة إذ عفا عن المسلمين فلم يكلّفهم الغسل أو الوضوء عند المرض ، ولا ترقّبَ وجود الماء عند عدمه ، حتّى تكثر عليهم الصلوات فيعسر عليهم القضاء .