تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (40)

يخبر تعالى أنه لا يظلم عبدا من عباده يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة ، بل يوفيها به ويضاعفها له إن كانت حسنة ، كما قال تعالى { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ]{[7500]} } [ الأنبياء : 47 ] وقال تعالى مخبرًا عن لقمان أنه قال : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ]{[7501]} } [ لقمان : 16 ] وقال تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ . فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }

وفي الصحيحين ، من حديث زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سَعِيدٍ الخُدْري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويلِ ، وفيه : فيقول الله عز وجل : " ارْجِعُوا ، فَمَن وجدتم في قلبه مثقالَ حبة{[7502]} خردل من إيمان ، فأخرجوه من النار " . وفي لفظ : " أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار ، فيخرجون خلقًا كثيرًا " ثم يقول أبو سعيد : اقرؤوا إن شئتم : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ[ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ]{[7503]} }{[7504]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا عيسى بن يُونُس ، عن هارونَ بن عنترة{[7505]} عن عبد الله بن السائب ، عن زَاذَانَ قال : قال عبدُ الله بن مَسْعُود : يُؤْتَى بالعبد والأمَة يومَ القيامةِ ، فينادي منادٍ على رءوس الأولين والآخِرين : هذا فلانُ بنُ فلانٍ ، من كان له حق فليأت إلى حقه .

فتفرحُ المرأةُ أن يكون لها الحق على أبيها أو أخيها أو زوجها . ثم قرأ : { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] فيغفر الله من حقه ما يشاء ، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا ، فينصَب للناس فينادَي : هذا فلانُ بن فلانٍ ، من كان له حق فليأتِ إلى حقه . فيقول : رَبّ ، فَنِيَت الدنيا ، من أين أُوتِيِهْم حقوقَهم ؟ قال : خذوا من أعماله الصالحة ، فأعطوا كلَ ذي حق حقه بقدر طلبته فإن كان وليًّا لله ففَضَلَ له مثقالُ ذرة ، ضاعفها الله له حتى يدخلَه بها الجنة ، ثم قرأ علينا : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } قال : ادخل الجنة ؛ وإن كان عبدًا شقيا قال الملك : ربِّ فنيت حسناته ، وبقي طالبون كثير ؟ فيقول : خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ، ثم صُكُّوا له صَكًّا إلى النار .

ورواه ابن جَرِيرٍ من وجه آخر ، عن زاذان - به نحوه . ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثتا أبو نُعَيْمٍ ، حدثنا فُضَيلٌ - يعني ابن مرزوق - عن عطيَّة العَوْفي ، حدثني عبد الله بن عُمَرَ قال : نزلت هذه الآية في الأعراب : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] قال رجل : فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : ما هو أفضلُ من ذلك : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } .

وحدثنا أبو زُرْعَةَ ، حدثنا يَحْيَى بن عبد الله بن بُكَيْرٍ ، حدثني عبد الله بن لَهِيعَةَ ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جُبَيْرٍ في قوله { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ، ولا يخرج من النار أبدا . وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال : يا رسول الله ، إن أبا طالب{[7506]} كان يحوطك وينصرك فهل نفعته بشيء ؟ قال : " نعم هو في ضَحْضَاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدَّرْك الأسفل من النار " {[7507]} .

وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار ، بدليل ما رواه أبو داود الطَّيالسِي في سننه{[7508]} حدثنا عِمْرَانُ ، حدثنا قتادة ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة ، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجْزَى بها{[7509]} في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة " {[7510]} .

وقال أبو هريرة ، وعِكْرِمَةُ ، وسعيدُ بن جُبَيْرٍ ، والحسنُ وقتادةُ والضحاكُ ، في قوله : { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } يعني : الجنة .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا سُلَيْمانُ - يعني ابن الْمُغَيْرَةِ - عن علي بن زَيْدٍ ، عن أبي عثمان قال : بلغني عن أبي هريرة أنه قال : بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة . قال : فقُضي أني انطلقت حاجا أو معتمرا ، فلقيته فقلت : بلغني عنك حديث أنك تقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة " قال أبو هريرة : لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله عز وجل يعطيه ألفي ألف حسنة " ثم تلا { يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } فمن يقدره قدره{[7511]} {[7512]} .

رواه الإمام أحمد فقال : حدثنا يَزِيدُ ، حدثنا مباركُ بن فَضَالَة ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان قال : أتيت أبا هريرة فقلت له : بلغنى{[7513]} أنك تقول : إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة ؟ قال : وما أعجبك من ذلك ؟ فوالله لقد سمعت - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم - كذا قال أبي - يقول : " إن الله ليضاعف الحسنة ألفى ألف حسنة " {[7514]} .

علي بن زيد في أحاديثه نكارة ، فالله أعلم .


[7500]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[7501]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية"
[7502]:في ر، أ: "ذرة".
[7503]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[7504]:صحيح البخاري برقم (7439) وصحيح مسلم برقم (183).
[7505]:في أ: "عنبرة".
[7506]:في أ: "إن عمك أبا طالب".
[7507]:رواه البخاري في صحيحه برقم (3883، 6208) ومسلم في صحيحه برقم (209).
[7508]:في د، ر، أ: "مسنده".
[7509]:في ر: "فيها".
[7510]:مسند الطيالسي برقم (47) "منحة المعبود" ورواه مسلم برقم (2808) من طريق يزيد بن هارون عن همام بن يحيى عن قتادة بنحوه.
[7511]:في د، ر، أ: "يقدر قدره".
[7512]:المسند (5/521).
[7513]:في ر: "إنه بلغني.
[7514]:المسند (2/296).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (40)

{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة } لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أصغر شيء كالذرة ، وهي النملة الصغيرة . ويقال لكل جزء من أجزاء الهباء ، والمثقال مفعال من الثقل ، وفي ذكره إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاؤه . { وإن تك حسنة } وإن يكن مثقال الذرة حسنة وأنت الضمير لتأنيث الخبر ، أو لإضافة المثقال إلى مؤنث . وحذف النون من غير قياس تشبيها بحروف العلة . وقرأ بن كثير ونافع { حسنة } بالرفع على كان التامة . { يضاعفها } يضاعف ثوابها وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعفها وكلاهما بمعنى . { ويؤت من لدنه } ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل زائدا على ما وعد في مقابلة العمل { أجرا عظيما } عطاء جزيلا وإنما سماه أجرا لأنه تابع للأجر مزيد عليه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (40)

استئناف بعد أن وصف حالهم ، وأقام الحجّة عليهم ، وأراهم تفريطهم مع سهولة أخذهم بالحيطة لأنفسهم لو شاءوا ، بيّن أنّ الله منزّه عن الظلم القليل ، بله الظلم الشديد ، فالكلام تعريض بوعيد محذوف هو من جنس العقاب ، وأنّه في حقّهم عدل ، لأنّهم استحقّوه بكفرهم ، وقد دلّت على ذلك المقدّر أيضاً مقابلته بقوله : { وإن تك حسنة } ولمّا كان المنفي الظلم ، على أنّ ( مثقال ذرّة ) تقدير لأقلّ ظلم ، فدلّ على أنّ المراد أنّ الله لا يؤاخذ المسيء بأكثر من جزاء سيّئته .

وانتصب { مثقال ذرة } بالنيابة عن المفعول المطلق ، أي لا يظلم ظُلما مقدّراً بمثقال ذرّة ، والمثقال ما يظهر به الثِّقَل ، فلذلك صيغَ على وزن اسم الآلة ، والمراد به المقدار .

والذَّرة تطلق على بيضة النمْلة ، وعلى ما يتطاير من التراب عند النفخ ، وهذا أحقر ما يقدُر به ، فعلم انتفاء ما هو أكثر منه بالأولى . وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر { حسنة } بالرفع على أنّ ( تك ) مضارع كان التامّة ، أي إن تُوجَدْ حسنةٌ . وقرأه الجمهور بنصب { حسنة } على الخبرية ل { تَكُ } على اعتبار كان ناقصة ، واسم كان المُسْتتر عائد إلى مثقال ذرّة ، وجيء بفعل الكون بصيغة فِعل المؤنث مراعاةً لفظ ذرّة الذي أضيف إليه مثقالُ ، لأنّ لفظ مثقال مبهم لا يميّزه إلاّ لفظ ذرّة فكان كالمستغنى عنه .

والمضاعفة إضافة الضّعف بكسر الصاد أي المِثْل ، يقال : ضاعف وضَعَّف وأضْعَفَ ، وهي بمعنى واحد على التحقيق عند أيمّة اللغة ، مثل أبي علي الفارسي . وقال أبو عُبيدة ضاعف يقتضي أكثر من ضِعْفٍ واحد وضعّف يقتضي ضعفين . وردّ بقوله تعالى : { يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ] . وأمّا دلالة إحدى الصيغ الثلاث على مقدار التضعيف فيؤخذ من القرائن لحكمة الصيغة . وقرأ الجمهور : { يضاعفها } ، وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو جعفر : { يُضَعِّفها } بدون ألف بعد العين وبتشديد العين .

والأجر العظيم ما يزاد على الضعف ، ولذلك أضافه الله تعالى إلى ضمير الجلالة ، فقال : { من لدنه } إضافة تشريف . وسمّاه أجرا لكونه جزاء على العمل الصالح ، وقد روي أنّ هذا نزل في ثواب الهجرة .