تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

ثم أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة ، فقال : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ } أي : مهما أمكنكم ، { مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ }

قال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وَهْب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي علي ثُمَامة بن شُفَيّ ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي " {[13105]}

رواه مسلم ، عن هارون بن معروف ، وأبو داود عن سعيد بن منصور ، وابن ماجة عن يونس بن عبد الأعلى ، ثلاثتهم عن عبد الله بن وهب ، به{[13106]}

ولهذا الحديث طرق أخر ، عن عقبة بن عامر ، منها ما رواه الترمذي ، من حديث صالح بن كَيْسان ، عن رجل ، عنه{[13107]}

وروى الإمام أحمد وأهل السنن ، عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ارموا واركبوا ، وأن ترموا خير من أن تركبوا " {[13108]}

وقال الإمام مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل لثلاثة : لرجل أجْر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ؛ فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج - أو : روضة - فما أصابت في طيلها ذلك من المرج - أو : الروضة - كانت له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقي به ، كان ذلك حسنات له ؛ فهي لذلك الرجل أجر . ورجل ربطها تغنِّيًا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ، فهي له ستر ، ورجل ربطها فخرًا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر " . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال : " ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] .

رواه البخاري - وهذا لفظه - ومسلم ، كلاهما من حديث مالك{[13109]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، أخبرنا شريك ، عن الرُّكَيْن بن الربيع{[13110]} عن القاسم بن حسان ؛ عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل ثلاثة : ففرس للرحمن ، وفرس للشيطان ، وفرس للإنسان ، فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله ، فعلفه وروثه وبوله ، وذكر ما شاء الله . وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليه ، وأما فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها ، فهي ستر من فقر " {[13111]}

وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل ، وذهب الإمام مالك إلى أن الركوب أفضل من الرمي ، وقول الجمهور أقوى للحديث ، والله أعلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج وهشام{[13112]} قالا حدثنا ليث ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن شماسة : أن معاوية بن حديج{[13113]} مر على أبي ذر ، وهو قائم عند فرس له ، فسأله ما تعالج من فرسك هذا ؟ فقال : إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته ! قال : وما دعاء بهيمة من البهائم ؟ قال : والذي نفسي بيده ما من فرس إلا وهو يدعو كل سحر فيقول : اللهم ، أنت خولتني عبدا من عبادك ، وجعلت رزقي بيده ، فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده{[13114]}

قال : وحدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الحميد بن جعفر ؛ حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن سُوَيْد بن قيس ؛ عن معاوية بن حديج{[13115]} ؛ عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر ، يدعو بدعوتين ، يقول : اللهم ، إنك خولتني من خولتني من بني آدم ، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه " أو " أحب أهله وماله إليه " .

رواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يحيى القطَّان ، به{[13116]}

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التّسْتُرِيّ ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثنا المطعم بن المقدام الصنعاني ، عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال لابن الحنظلية - يعني : سهلا - : حدَّثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، وأهلها معانون عليها ، ومن ربط فرسًا في سبيل الله كانت النفقة عليه ، كالماد يده بالصدقة لا يقبضها " {[13117]}

والأحاديث الواردة في فضل ارتباط الخيل كثيرة ، وفي صحيح البخاري ، عن عُرْوَة ابن أبي الجعد البارقي{[13118]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والمغنم " {[13119]}

وقوله : " ترهبون " أي : تخوفون{ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } أي : من الكفار{ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ } قال مجاهد : يعني : قريظة ، وقال السدي : فارس ، وقال سفيان الثوري : قال ابن يمان : هم الشياطين التي في الدور . وقد ورد حديث بمثل ذلك ، قال ابن أبي حاتم :

حدثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحِمْصِي ، حدثنا أبو حيوة - يعني : شريح بن يزيد المقرئ - حدثنا سعيد بن سنان ، عن ابن عريب - يعني : يزيد بن عبد الله بن عريب - عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في قوله : { وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ } قال : " هم الجن " {[13120]}

ورواه الطبراني ، عن إبراهيم بن دُحَيْم ؛ عن أبيه ، عن محمد بن شعيب ؛ عن سعيد بن سنان{[13121]} عن يزيد بن عبد الله بن عريب ، به ، وزاد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل " {[13122]}

وهذا الحديث منكر ، لا يصح إسناده ولا متنه .

وقال مقاتل بن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المنافقون .

وهذا أشبه الأقوال ، ويشهد له قوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } [ التوبة : 101 ] .

وقوله : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاتُظْلَمُونَ } أي : مهما أنفقتم في الجهاد ، فإنه يوفى إليكم على التمام{[13123]} والكمال ، ولهذا جاء في حديث{[13124]} رواه أبو داود : أن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف{[13125]} كما تقدم في قوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، حدثنا الأشعث بن إسحاق ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر ألا يتصدق إلا على أهل الإسلام ، حتى نزلت : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين . وهذا أيضًا غريب .


[13105]:في م ذكرت جملة "ألا إن القوة الرمي" ثلاث مرات.
[13106]:المسند (4/156) وصحيح مسلم برقم (1917) وسنن أبي داود برقم (2514) وسنن ابن ماجة برقم (13/28).
[13107]:سنن الترمذي برقم (3083) وقال: "صالح بن كيسان لم يدرك عقبة بن عامر، وقد أدرك ابن عمر".
[13108]:المسند (4/144).
[13109]:الموطأ (2/414) ومن طريقه، رواه البخاري في صحيحه برقم (2371) وأما مسلم فرواه من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن أبي صالح به برقم (987).
[13110]:في ك: "الربيع بن الركين".
[13111]:المسند (1/395).
[13112]:في ك، أ: "هاشم".
[13113]:في أ: "خديج".
[13114]:المسند (5/162).
[13115]:في أ: "خديج".
[13116]:المسند (5/170) وسنن النسائي (6/223).
[13117]:المعجم الكبير (6/98).
[13118]:في م: "المبارك".
[13119]:صحيح البخاري برقم (2850).
[13120]:ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده برقم (650) "بغية الباحث" حدثنا داود بن رشيد عن أبي حيوة به.
[13121]:في جميع النسخ: "سنان بن سعيد بن سنان" والتصويب من المعجم الكبير.
[13122]:المعجم الكبير (17/188) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (1089): حدثنا ابن أبي عاصم عن دحيم به نحوه.
[13123]:في ك: "إليكم وأنتم لا تظلمون على التمام".
[13124]:في د: "في الحديث الذي".
[13125]:سنن أبي داود برقم (2498) ولفظه: "إن الصلاة والصيام والذكر تضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف" وقد تقدم نحو هذا اللفظ عند تفسير الآية: 261 من سورة البقرة من حديث عمران بن حصين.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

{ وأعدّوا } أيها المؤمنون { لهم } لناقضي العهد أو الكفار . { ما استطعتم من قوة } من كل ما يتقوى به في الحرب . وعن عقبة بن عامر سمعته عليه الصلاة والسلام يقول على المنبر " ألا إن القوة الرمي قالها ثلاثا " ولعله عليه الصلاة والسلام خصه بالذكر لأنه أقواه . { ومن رباط الخيل } اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، فعال بمعنى مفعول أو مصدر سمي به يقال ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا ، أو جمع ربيط كفصيل وفصال . وقرئ " ربط الخيل " بضم الباء وسكونها جمع رباط وعطفها على القوة كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة . { تُرهبون به } تخوفون به ، وعن يعقوب { ترهبون } بالتشديد والضمير ل { ما استطعتم } أو للإعداد . { عدو الله وعدوّكم } يعني كفار مكة . { وآخرين من دونهم } من غيرهم من الكفرة . قيل هم اليهود وقيل المنافقون وقيل الفرس . { لا تعلمونهم } لا تعرفونهم بأعيانهم . { الله يعلمهم } يعرفهم . { وما تُنفقوا من شيء في سبيل الله يُوفّ إليكم } جزاؤه . { وأنتم لا تُظلمون } بتضييع العمل أو نقص الثواب .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

عطف جملة : { وأعدوا } على جملة : { فإما تثقفنهم في الحرب } [ الأنفال : 57 ] أو على جملة : { ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا } [ الأنفال : 59 ] ، فتفيد مفاد الاحتراس عن مُفادها ، لأنّ قوله : { ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا } يُفيد توهيناً لشأن المشركين ، فتعقيبه بالأمر بالاستعداد لهم : لئلا يحسب المسلمون أنّ المشركين قد صاروا في مكنتهم ، ويلزم من ذلك الاحتِراسسِ أنّ الاستعداد لهم هو سبب جعْل اللَّهِ إيّاهم لا يُعجزون اللَّهَ ورسوله ، لأنّ الله هيّأ أسباب استئصالهم ظاهرها وباطنها .

والإعداد التهيئة والإحضار ، ودخل في { ما استطعتم } كلّ ما يدخل تحت قدرة الناس اتّخاذه من العُدّة .

والخطاب لجماعة المسلمين ووُلاَة الأمر منهم ، لأنّ ما يراد من الجماعة إنّما يقوم بتنفيذه وُلاَة الأمور الذين هم وكلاء الأمّة على مصالحها .

والقوة كمال صلاحية الأعضاء لعملها وقد تقدّمت آنفاً عند قوله : { إن الله قوي شديد العقاب } [ الأنفال : 52 ] وعند قوله تعالى : { فخذها بقوة } وتطلق القوة مجازاً على شدّة تأثير شيء ذي أثر ، وتطلق أيضاً على سبب شدّة التأثير ، فقوة الجيش شدة وقعه على العدوّ ، وقوته أيضاً سلاحه وعتاده ، وهو المراد هنا ، فهو مجاز مرسل بواسطتين ، فاتّخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية ، واتّخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوّة في جيوش عصرنا . وبهذا الاعتبار يُفسر ما روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال « ألاَ إنّ القوة الرمي » قالها ثلاثاً ، أي أكمل أفراد القوة آلةُ الرمي ، أي في ذلك العصر . وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي .

وعطف { رباط الخيل } على { القوة } من عطف الخاصّ على العام ، للاهتمام بذلك الخاصّ .

و { الرباط } صيغة مفاعلة أُتِيَ بها هنا للمبالغة لتدلّ على قصد الكثرة من ربط الخيل للغزو ، أي احتباسها وربطها انتظاراً للغزو عليها ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم « من ارتبط فرساً في سبيل الله كان روثُها وبولها حسنات له » الحديث . يقال : ربط الفرس إذا شدّه في مكان حفظه ، وقد سَمَّوا المكان الذي ترتبط فيه الخيل رباطاً ، لأنّهم كانوا يحرسون الثغور المخوفة راكبين على أفراسهم ، كما وصف ذلك لبيد في قوله :

ولقد حمَيت الحَي تحملُ شِكَّتي *** فُرُطٌ وِشَاحِي إنْ ركبتُ زمامُها

إلى أن قال :

حتّى إذا ألْقَتْ يداً في كافــر *** وأجَنَّ عوراتِ الثغور ظَلامها

أسْهلتُ وانتصبت كجِذْع مُنيفة *** جرداءَ يَحْصَر دونها جُرَّامها

ثم أُطلق الرباط على مَحرس الثغر البحري ، وبه سَمَّوا رِباط ( دمياط ) بمصر ، ورباط ( المُنستير ) بتونس ، ورباط ( سَلا ) بالمغرب الأقصى .

وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } في سورة [ آل عمران : 200 ] .

وجملة : ترهبون به عدو الله وعدوكم } إمّا مستأنفة استئنافاً بيانياً ، ناشئاً عن تخصيص الرباط بالذكر بعد ذكر ما يعمّه ، وهو القوة ، وإمّا في موضع الحال من ضمير { وأعدّوا } .

وعدو الله وعدوهم : هم المشركون فكان تعريفهم بالإضافة ، لأنّها أخصر طريق لِتعريفهم ، ولما تتضمنه من وجه قتالهم وإرهابهم ، ومن ذمّهم ، أن كانوا أعداء ربّهم ، ومن تحريض المسلمين على قتالهم إذ عُدُّوا أعداءً لهم ، فهم أعداء الله ؛ لأنّهم أعداء توحيده وهم أعداء رسوله صلى الله عليه وسلم لأنّهم صارحوه بالعداوة ، وهم أعداء المسلمين ، لأن المسلمين أولياء دين الله والقائمون به وأنصاره ، فعطف { وعَدوَّكم } على { عدوَّ الله } من عطف صفة موصوف واحد مثل قول الشاعر ، وهو من شواهد أهل العربية :

إلى الملك القرم وابن الهما *** م ولَيْثِ الكتيبة في المزدحم

والإرهاب جعل الغير راهباً ، أي خائفاً ، فإنّ العدوّ إذَا علم استعداد عدوّه لقتاله خافه ، ولم يجرأ عليه ، فكان ذلك هناء للمسلمين وأمناً من أن يغزوهم أعداؤهم ، فيكون الغزو بأيديهم : يَغزون الأعداء متى أرادوا ، وكانَ الحال أوفق لهم ، وأيضاً ذا رهبوهم تجنّبوا إعانة الأعداء عليهم .

والمراد ب { الآخرين من دونهم } أعداء لا يعرفهم المسلمون بالتعيين ولا بالإجمال ، وهم من كان يضمر للمسلمين عداوة وكيداً ، ويتربّص بهم الدوائر ، مثل بعض القبائل . فقوله : { لا تعلمونهم } أي لم تكونوا تعلمونهم قبل هذا الإعلام ، وقد علمتموهم الآن إجمالاً ، أو أريد : لا تعلمونهم بالتفصيل ، ولكنّكم تعلمُون وجودهم إجمالاً مثل المنافقين ، فالعلم بمعنى المعرفة ، ولهذا نصب مفعولاً واحداً .

وقوله : { من دونهم } مؤذن بأنّهم قبائل من العرب كانوا ينتظرون ما تنكشف عنه عاقبة المشركين من أهل مكة من حربهم مع المسلمين ، فقد كان ذلك دأب كثير من القبائل كما ورد في السيرة ، ولذلك ذكر { من دونهم } بمعنى : من جهات أخرى ، لأنّ أصل ( دون ) أنّها للمكان المخالف ، وهذا أولى من حمله على مطلق المغايرة التي هي من إطلاقات كلمة ( دون ) لأنّ ذلك المعنى قد أغنى عنه وصفهم ب { آخرين } .

وجملة { اللَّه يعلمهم } تعريض بالتهديد لهؤلاء الآخرَين ، فالخبر مستعمل في معناه الكنائي ، وهو تعقُّبهم والإغراءُ بهم ، وتعريض بالامتنان على المسلمين بأنّهم بمحل عناية الله فهو يُحصي أعداءهم وينبّههم إليهم .

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي : للتقوّي ، أي تحقيق الخبر وتأكيده ، والمقصود تأكيد لازم معناه ، أمّا أصل المعنى فلا يحتاج إلى التأكيد إذ لا ينكره أحد ، وأمّا حمل التقديم هنا على إرادة الاختصاص فلا يحسن للاستغناء عن طريق القصر بجملة النفي في قوله : { لا تعلمونهم } فلو قيل : ويعلّمهم الله لحصل معنى القصر من مجموع الجملتين .

وإذ قد كان إعداد القوَّةِ يستدعي إنفاقاً ، وكانت النفوس شحيحة بالمال ، تكفّل الله للمنفقين في سبيله بإخلاف ما أنفقوه والإثابة عليه ، فقال : { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم } فسبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمته .

والتوفية : أداء الحقّ كاملاً ، جعل الله ذلك الإنفاق كالقرض لله ، وجعل على الإنفاق جزاء ، فسمّى جزاءَه توفية على طريقة الاستعارة المكنية ، وتدلّ التوفية على أنّه يشمل الأجرَ في الدنيا مع أجر الآخرة ، ونقل ذلك عن ابن عباس .

وتعدية التوفية إلى الإنفاق بطريق بناء للفعل للنائب ، وإنّما الذي يوفّى هو الجزاء على الإنفاق في سبيل الله ، للإشارة إلى أنّ الموفَّى هو الثواب . والتوفية تكون على قدر الإنفاق وأنّها مثله ، كما يقال : وفَّاه دينه ، وإنّما وفّاه مماثلاً لديْنه . وقريب منه قولهم : قَضى صلاة الظهر ، وإنّما قضى صلاة بمقدارها فالإسناد : إمّا مجاز عقلي ، أو هو مجاز بالحذف .

والظلم : هنا مستعمل في النقص من الحقّ ، لأنّ نقص الحقّ ظلم ، وتسمية النقص من الحقّ ظلماً حقيقة . وليس هو كالذي في قوله تعالى : { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً } [ لكهف : 33 ] .