قالوا لهم ههنا : { إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : يقولون : كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا ، لأنا{[24939]} كنا أذلاء وكنتم أعزاء .
وقال مجاهد : يعني : عن الحق ، الكفار تقوله{[24940]} للشياطين .
وقال قتادة : قالت الإنس للجن : { إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } قال : من قبل الخير ، فتنهونا عنه وتبطئونا عنه .
وقال السدي تأتوننا [ عن اليمين ]{[24941]} من قبل الحق ، تزينون{[24942]} لنا الباطل ، وتصدونا عن الحق .
وقال الحسن في قوله : { إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } إيْ والله ، يأتيه عند كل خير يريده فيصده عنه .
وقال ابن زيد : معناه تحولون بيننا وبين الخير ، ورددتمونا عن الإسلام والإيمان والعمل بالخير الذي أمرنا به .
وقال يزيد الرشْك : من قبل " لا إله إلا الله " . وقال خُصيف : يعنون من قبل ميامنهم . وقال
عكرمة { إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } ، قال : من حيث نأمنكم .
{ قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } عن أقوى الوجوه وأيمنها ، أو عن الدين أو عن الخير كأنكم تنفعوننا نفع السانح فتبعناكم وهلكنا ، مستعار من يمين الإنسان الذي هو أقوى الجانبين وأشرفهما وأنفعهما ولذلك سمي يمينا وتيمن بالسانح ، أو عن القوة والقهر فتقسروننا على الضلال ، أو على الحلف فإنهم كانوا يحلفون لهم إنهم على الحق .
والقائلون { إنكم كنتم تأتونا عن اليمين } إما أن يكون الإنس يقولونها للشياطين وهذا قول مجاهد وابن زيد ، وإما أن يكون ضعفة الإنس يقولونها للكبراء والقادة ، واضطرب المتأولون في معنى قولهم { عن اليمين } وعبر ابن زيد وغيره عنه بطريقة الجنة والخير ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى لا تختص باللفظة وبعضهم أيضاً نحا في تفسير الآية إلى ما يخصها ، والذي يتحصل من ذلك معان منها أن يريد ب { اليمين } القوة والشدة فكأنهم قالوا إنكم كنتم تغووننا بقوة منكم وتحملوننا على طريق الضلالة بمتابعة منكم في شدة فعبر عن هذا المعنى ب { اليمين } كما قالت العرب «بيدين ما أورد »{[9840]} ، وكما قالوا «اليد » في غير موضع عن القوة ، وقد ذهب بعض الناس ببيت الشماخ هذا المذهب وهو قوله : { الوافر ]
إذا ما راية رفعت لمجد . . . تلقاها عرابة باليمين{[9841]}
فقالوا معناه بقوة وعزمة ، وإلا فكل أحد كان يتلقاها بيمينه ، لو كانت الجارحة ، وأيضاً فإنما استعار الراية للمجد فكذلك لم يرد باليمين الجارحة ، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا { إنكم كنتم تأتوننا } من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم ويظهر فيها أنها جهة الرشد والصواب ، فتصير عندنا كاليمين التي بيمين السانح الذي يجيء من قبلها .
قال القاضي أبو محمد : فكأنهم شبهوا أقوال هؤلاء المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة ، كأن التمويه في هذه الغوايات قد أظهر فيها ما يوشك أن يحمد به ، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا إنكم كنتم تأتوننا أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليمن معبر عنها ب { اليمين } ، إذ اليمين هي الجهة ا لتي يتيمن بكل ما كان فيها ومنها{[9842]} .
ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا أنكم كنتم تجيئون من جهة الشهوات وعدم النظر ، والجهة الثقيلة من الإنسان وهي جهة اليمين منه لأن كبده فيها ، وجهة شماله فيها قلبه وهي أخف ، وهذا معنى قول الشاعر :
تركنا لهم شق الشمال . . . . . . {[9843]}
أي زلنا لهم عن طريق الهروب ، لأن المنهزم إنما يرجع على شقه الأيسر إذ هو أخف شقيه ، وإذا قلب الإنسان في شماله وثم نظره فكأنه هؤلاء كانوا يأتون من جهة الشهوات والثقل .
قال القاضي أبو محمد : وأكثر ما يتمكن هذا التأويل مع إغواء الشياطين وهو قلق مع إغواء بني آدم ، وقيل المعنى تحلفون لنا وتأتوننا إتيان من إذا حلف صدقناه .
قال القاضي أبو محمد : فاليمين على هذا القسم ، وقد ذهب بعض الناس في ذكر إبليس جهات بني آدم في قوله
{ من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم }{[9844]} [ الأعراف : 17 ] إلى ما ذكرناه من جهة الشهوات فقال ما بين يديه هي مغالطته فيما يراه ، وما خلفه هو ما يسارق فيه الخفاء ، وعن يمينه هو جانب شهواته ، وعن شماله هو موضع نظره بقلبه وتحرزه فقد يغلبه الشيطان فيه ، وهذا فيمن جعل هذا في جهات ابن آدم الخاصة بيديه ، ومن الناس من جعلها في جهات أموره وشؤونه فيتسع التأويل على هذا .
كان حقّ فعل { تأتُوننا } أن يعدّى إلى جهة اليمين بحرف « مِن » فلما عُدّي بحرف { عن } الذي هو للمجاوزة تعين تضمين { تأتُونَنا } معنى « تصدوننا » ليُلائم معنى المجاوزة ، أي تأتوننا صادِّيننا عن اليمين ، أي عن الخير . فهذا وجه تفسير الآية الذي اعتمده ابن عطية والزمخشري وقد اضطرب كثير في تفسيرها . قال ابن عطية ما خلاصته : اضطرب المتأولون في معنى قولهم : { عَننِ اليمين } فعبر عنه ابن زيد وغيره بطريق الجنة ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى ولا تختص بنفس اللفظة ، وبعضهم أيضاً نحا في تفسيره إلى ما يخص اللفظة فتحصل من ذلك معان منها : أن يريد باليمين القوة والشدة ( قلتُ وهو عن ابن عباس والفرّاء ) فكأنهم قالوا إنكم كنتم تُغْروننا بقوة منكم ، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا : تأتوننا من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم وتُظهرون فيها أنها جهة الرشد ( وهو عن الزجاج والجبّائي ) ومما تحتمله الآية أن يريدوا : إنكم كنتم تأتوننا ، أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليُمْن ، فعبروا عنها باليمين ، ومن المعاني أن يريدوا : أنكم تجيئون من جهة الشهوات وعدم النظر لأن جهة يمين الإِنسان فيها كبده وجهة شماله فيها قلبه وأن نظر الإِنسان في قلبه وقيل : تحلفون لنا اهـ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعنون من قبل الحق... وقالوا للشياطين: أنتم زينتم لنا ما نحن عليه، فقلتم إن هذا الذي نحن عليه هو الحق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت الإنس للجنّ: إنكم أيها الجنّ كنتم تأتوننا من قِبَل الدين والحقّ فتخدعوننا بأقوى الوجوه و "اليمين": القوّة والقدرة في كلام العرب... قال ابن زيد في قوله: "إنّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ اليَمِينِ "قال: قال بنو آدم للشياطين الذين كفروا: إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين، قال: تحولون بيننا وبين الخير، ورددتمونا عن الإسلام والإيمان، والعمل بالخير الذي أمر الله به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: من قبل الخير والطاعة، فتسهوننا، وتشغلوننا عنه.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال أهل المعاني: من جهة النصيحة والبركة والعمل الذي يتيمن به، والعرب تتيمن بما جاء عن اليمين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
اليمين لما كانت أشرف العضوين وأمتنهما وكانوا يتيمنون بها، فيها يصافحون ويماسحون ويناولون ويتناولون، ويزاولون أكثر الأمور، ويتشاءمون بالشمال، ولذلك سموها: الشؤم، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه، والمسيء أن يؤتاه بشماله: استعيرت لجهة الخير وجانبه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
من المعاني التي تحتملها الآية؛ أن يريدوا أنكم كنتم تجيئون من جهة الشهوات وعدم النظر، والجهة الثقيلة من الإنسان وهي جهة اليمين منه لأن كبده فيها، وجهة شماله فيها قلبه وهي أخف.
كنتم تخدعوننا وتوهمون لنا أن مقصودكم من الدعوة إلى تلك الأديان، نصرة الحق وتقوية الصدق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{عن} الذي هو للمجاوزة تعين تضمين {تأتُونَنا} معنى « تصدوننا» ليُلائم معنى المجاوزة، أي تأتوننا صادِّيننا عن اليمين، أي عن الخير.