وقوله : { حُنَفَاءَ لِلَّهِ } أي : مخلصين له الدين ، منحرفين عن الباطل قصدا إلى الحق ؛ ولهذا قال { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ }
ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى فقال : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ } أي : سقط منها ، { فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } ، أي : تقطعه الطيور في الهواء ، { أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } أي : بعيد مهلك لمن هوى فيه ؛ ولهذا جاء في حديث البراء : " إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت ، وصعدوا بروحه إلى السماء ، فلا تفتح له أبواب السماء ، بل تطرح روحه طرحا من هناك " . ثم قرأ هذه الآية ، وقد تقدم الحديث في سورة " إبراهيم " {[20182]} بحروفه وألفاظه وطرقه .
وقد ضرب [ الله ]{[20183]} تعالى للمشرك مثلا آخر في سورة " الأنعام " ، وهو قوله : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ]{[20184]} } [ الأنعام : 71 ] .
{ حنفاء لله } مخلصين له . { غير مشركين به } وهما حالان من الواو . { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء } لأنه سقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر . { فتخطفه الطير } فإن الأهواء الرديئة توزع أفكاره ، وقرأ نافع وحده { فتخطفه } بفتح الخاء وتشديد الطاء . { أو تهوى به الريح في مكان سحيق } بعيد فإن الشيطان قد طرح به في الضلالة وأو للتخيير كما قوله تعالى : { أو كصيب من السماء } ، أو للتنويع فإن من المشركين من لا خلاص له أصلا ، ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة لكن على بعد ، ويجوز أن يكون من التشبيهات المركبة فيكون المعنى : ومن يشرك بالله فقد هلكت نفسه هلاكا يشبه أحد الهلاكين .
و { حنفاء } ، معناه مستقيمين أو مائلين إلى الحق بحسب أن لفظة الحنف من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل ، و { حنفاء } نصب على الحال ، وقال قوم { حنفاء } معناه حجاجاً ع وهذا تخصيص لا حجة معه ، و { غير مشركين } ، ويجوز أن يكون حالاً أخرى ، ويجوز أن يكون صفة لقول { حنفاء } ثم ضرب تعالى مثلاً للمشرك بالله أظهره في غاية السقوط ويحتمل الهول والانبتات من النجاة ، بخلاف ما ضرب للمؤمن في قوله { فمن كفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى }{[8373]} [ البقرة : 256 ] ومنه قول علي رضي الله عنه : إذا حدثتكم عن رسول الله فلأن أخر من السماء إلى الأرض أهون علي من أن أكذب عليه ، الحديث . وقرأ نافع وحده «فتخطّفه الطير » بفتح الخاء وشد الطاء على حذف تاء التفعل وقرأ الباقون «فتخْطفه » بسكون الخاء وتخفيف الطاء ، وقرأ الحسن فيما روي عنه «فَتِخِطَّفه » بكسر التاء والخاء وفتح الطاء مشددة ، وقرأ أيضاً الحسن وأبو رجاء بفتح التاء وكسر الخاء والطاء وشدها ، وقرأ الأعمش «من السماء تخطفه » بغير فاء وعلى نحو قراءة الجماعة وعطف المستقبل على الماضي لأنه بتقدير فهو تخطفه الطير ، وقرأ أبو جعفر ، «الرياح » و «السحيق » البعيد ومنه قولهم أسحقه الله ومنه قوله عليه السلام «فسحقاً فسحقاً »{[8374]} ومنه نخلة سحوق للبعيدة في السماء .
{ حنفاء لله } حال من ضمير { اجتنبوا } أي تكونوا إن اجتنبتم ذلك حنفاء لله ، جمع حنيف وهو المخلص لله في العبادة ، أي تكونوا على ملّة إبراهيم حقاً ، ولذلك زاد معنى { حنفاء } بياناً بقوله { غير مشركين به } . وهذا كقوله : { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين } [ النحل : 120 ] .
والباء في قوله { مشركين به } للمصاحبة والمعية ، أي غير مشركين معه غيره .
{ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ }
أعقب نهيهم عن الأوثان بتمثيل فظاعة حال من يشرك بالله في مصيره بالشرك إلى حال انحطاط وتلقف الضلالات إياه ويأسه من النجاة ما دام مشركاً تمثيلاً بديعاً إذ كان من قبيل التمثيل القابل لتفريق أجزائه إلى تشبيهات .
قال في « الكشاف » : « يجوز أن يكون هذا التشبيه من المركب والمفرّق بأن صُور حال المشرك بصورة حال مَن خرّ من السماء فاختطفَتْه الطيرُ فتفرّق مِزعاً في حواصلها ، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة ، وإن كان مفرقاً فقد شبّه الإيمان في علوّه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء ، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة » أ ه .
يعني أنّ المشرك لما عدل عن الإيمان الفطري وكان في مكنته فكأنه كان في السماء فسقط منها ، فتوزعته أنواع المهالك ، ولا يخفى عليك أنّ في مطاوي هذا التمثيل تشبيهات كثيرة لا يعوزك استخراجها .
والسحيق : البعيد فلا نجاة لمن حل فيه .
وقوله : { أو تهوي به الريح } تخيير في نتيجة التشبيه ، كقوله : { أو كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] . أشارت الآية إلى أن الكافرين قسمان : قسم شِركه ذبذبة وشكّ ، فهذا مشبّه بمن اختطفته الطير فلا يستولي طائر على مزعة منه إلاّ انتهبها منه آخر ، فكذلك المذبذب متى لاح له خيال اتبعه وترك ما كان عليه . وقسم مصمّم على الكفر مستقر فيه ، فهو مشبّه بمن ألقته الريح في واد سحيق ، وهو إيماء إلى أن من المشركين من شركه لا يرجى منه خلاص كالذي تخطفته الطير ، ومنهم من شركه قد يخلص منه بالتوبة إلا أن توبته أمر بعيد عسير الحصول .
والخُرور : السقوط . وتقدم في قوله : { فخر عليهم السقف من فوقهم } في [ سورة النحل : 26 ] .
و { تخطّفُه } مضاعف خطف للمبالغة ، الخطف والخطف : أخذ شيء بسرعة سواء كان في الأرض أم كان في الجو ومنه تخطف الكرة . والهُوِيّ : نزول شيء من علو إلى الأرض . والباء في { تهوي به } للتعدية مثلها في : ذهب به .
وقرأ نافع ، وأبو جعفر { فتَخَطّفه } بفتح الخاء وتشديد الطاء مفتوحة مضارع خطّف المضاعف . وقرأه الجمهور بسكون الخاء وفتح الطاء مخففة مضارع خطف المجرّد .