فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } أمر بتقواه ، وهي تشمل فعل ما به أمر ، وترك ما عنه زجر .
وقوله : { وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } أي : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم ، { وَاتَّقُوا اللَّهَ } تأكيد ثان ، { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم{[28611]} لا تخفى عليه منكم خافية ، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد }ليوم القيامة سماه به لدنوه أو لأن الدنيا كيوم والآخرة كغده وتنكيره للتعظيم وأما تنكير النفس فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة كأنه قال فلتنظر نفس واحدة في ذلك ، { واتقوا الله } تكرير للتأكيد أو الأول في أداء الواجبات لأنه مقرون بالعمل والثاني في ترك المحارم لاقترانه بقوله{ إن الله خبير بما تعملون } وهو كالوعيد على المعاصي .
هذه آية وعظ وتذكير وتقريب للآخرة ، وتحذير ممن لا تخفى عليه خافية .
وقرأ جمهور الناس : «ولْتنظرْ » بسكون اللام وجزم الراء على الأمر ، وقرا يحيى بن الحارث وأبو حيوة وفرقة كذلك بالأمر إلا أنها كسرت اللام على أصل لام الأمر ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن فيما روي عنه : «ولتنظرَ » بنصب الراء على لام كي كأنه قال وأمرنا بالتقوى لتنظروا ، كأنه قال : { اتقوا الله } ولتكن تقواكم «لتنظرَ » ، وقوله تعالى : { لغد } يريد يوم القيامة ، قال قتادة : قرب الله القيامة حتى جعلها غداً ، وذلك أنها آتية لا محالة وكل آت قريب ، ويحتمل أن يريد بقوله { لغد } : ليوم الموت ، لأنه لكل إنسان كغده ومعنى الآية : ما قدمت من الأعمال ، فإذا نظرها الإنسان تزيد من الصالحات ، وكف عن السيئات ، وقال مجاهد وابن زيد : الأمس : الدنيا ، وغد : الآخرة .
انتقال من الامتنان على المسلمين بما يسرّ الله من فتح قرية بني النضير بدون قتال ، وما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم منهم ، ووصف ما جرى من خيبتهم وخيبة أملهم في نصرة المنافقين ، ومن الإِيذان بأن عاقبة أهل القرى الباقية كعاقبة أسلافهم . وكذلك موقف أنصارهم معهم ، إلى الأمر بتقوى الله شكراً له على ما منح وما وعد من صادق الوعد فإن الشكر جزاء العبد عن نعمة ربه إذ لا يستطيع جزاء غير ذلك فأقبل على خطاب الذين آمنوا بالأمر بتقوى الله .
ولما كان ما تضمنته السورة من تأييد الله إياهم وفَيض نعمه عليهم كان من منافع الدنيا ، أعقبه بتذكيرهم بالإِعداد للآخرة بقوله : { ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ } أي لتتأمل كل نفس فيما قدمته للآخرة .
وجملة { ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ } ، عطف أمر على أمر آخر . وهي معترضة بين جملة { اتقوا الله } وجملة { إن الله خبير بما تعملون } . وذِكر { نفس } إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر : وانظروا ما قدمتم ، فعُدل عن الإِظهار لقصد العموم أي لتنظروا وتنظر كل نفس .
وتنكير { نفس } يفيد العموم في سياق الأمر ، أي لتنظر كل نفس ، فإن الأمر والدعاء ونحوهما كالشرط تكون النكرة في سياقها مثل ما هي في سياق النفي كقوله تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره } [ التوبة : 6 ] وكقول الحريري :
يا أهلَ ذا المَغْنَى وُقيتم ضُرّا
وإنما لم يعرَّف بلام التعريف تنصيصاً على العموم لئلا يتوهم نفسٌ معهودة .
وأطلق « غد » على الزمن المستقبل مجازاً لتقريب الزمن المستقبل من البعيد لملازمة اقتراب الزمن لمفهوم الغَد ، لأن الغد هو اليوم الموالي لليوم الذي فيه المتكلم فهو أقرب أزمنة المستقبل كما قال قرّاد بن أجدع :
فإن يَكُ صدْرُ هذا اليوم ولّى *** فإن غداً لناظره قريب
وهذا المجاز شائع في كلام العرب في لفظ ( غد ) وأخواته قال زهير :
وأعْلَمُ عِلْم اليومِ والأمسِ قبلَه *** ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِ
يريد باليوم الزمن الحاضر ، وبالأمس الزمن الماضي ، وبالغد الزمن المستقبل .
وتنكير « غد » للتعظيم والتهويل ، أي لغدٍ لا يعرف كنهه .
واللام في قوله : { لغدٍ } لام العلة ، أي ما قدمتْه لأجل يوم القيامة ، أي لأجل الانتفاع به .
والتقديم : مستعار للعمل الذي يُعمل لتحصيل فائدته في زمن آت شبه قصد الانتفاع به في المستقبل بتقديم من يَحلّ في المنزل قبل ورود السائرين إليه من جيش أو سَفر ليهيّء لهم ما يصلح أمرهم ، ومنه مقدمة الجيش وتقديم الرائد قبل القافلة . قال تعالى : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } [ البقرة : 110 ] ويقال في ضده : أَخَّر ، إذا ترك عمل شيء قال تعالى : { علمت نفس ما قدمت وأخرت } [ الأنفطار : 5 ] .
وإعادة { واتقوا الله } ليبنَى عليه { إن الله خبير بما تعملون } فيحصل الربط بين التعليل والمعلل إذ وقع بينهما فصل { ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ } . وإنما أعيد بطريق العطف لزيادة التأكيد فإن التوكيد اللفظي يؤتى به تارة معطوفاً كقوله تعالى : { أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى } [ القيامة : 34 ، 35 ] وقوله : { كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون } [ التكاثر : 3 4 ] . وقول عدي بن زيد : « وألفَى قولها كذباً ومَيناً » .
وذلك أن في العطف إيهام أن يكون التوكيد يجعل كالتأسيس لزيادة الاهتمام بالمؤكد .
فجملة { إن الله خبير بما تعملون } تعليل للحث على تقوى الله وموقع { إنَّ } فيها موقع التعليل .
ويجوز أن يكون { اتقوا الله } المذكور أولاً مراداً به التقوى بمعنى الخوف من الله وهي الباعثة على العمل ولذلك أردف بقوله : { ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ } ويكون { اتقوا الله } المذكور ثانياً مراداً به الدوام على التقوى الأولى ، أي ودوموا على التقوى على حد قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] ولذلك أردف بقوله : { إن الله خبير بما تعملون } أي بمقدار اجتهادكم في التقوى ، وأردف بقوله : { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } [ الحشر : 19 ] أي أهملوا التقوى بعد أن تقلّدوها كما سيأتي أنهم المنافقون فإنهم تقلّدوا الإِسلام وأضاعوه قال تعالى : { نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون } [ التوبة : 67 ] . وفي قوله : { إن الله خبير بما تعملون } إظهار اسم الجلالة في مقام الإِضمار ، فتكون الجملة مستقلة بدلالتها أتمّ استقلال فتجري مجرى الأمثال ولتربية المهابة في نفس المخاطبين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.