فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (18)

ثم رجع سبحانه إلى خطاب المؤمنين بالموعظة الحسنة لأن الموعظة بعد المصيبة أوقع في النفس ، لرقة القلوب والحذر مما يوجب العقاب ، فقال :

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } أي اتقوا عقابه بفعل ما أمركم به ، وترك ما نهاكم عنه ، { ولتنظر نفس ما قدمت لغد } أي لتنظر أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة ، والعرب تكني عن الزمان المستقبل بالغد ، وهو في الأصل عبارة عن يوم بينك وبينه ليلة ، وإنما أطلق اسم الغد على يوم القيامة تقريبا له ، كقوله تعالى : { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر } فكأنه لقربه شبه بما ليس بينك وبينه إلا ليلة واحدة ، أو لأن الدنيا أي زمانها كيوم والآخرة كغده ، لاختصاص كل منهما بأحكام وأحوال متشابهة ، وتعقيب الثاني للأول ، فلفظ الغد حينئذ استعارة ، وفائدة تنكير النفس بيان ، أن الأنفس الناظرة في معادها قليلة جدا ، كأنه قيل : ولتنظر نفس واحدة في ذلك ، وأين تلك النفس ؟ وفائدة تنكير الغد تعظيمه ، وإبهام أمره ، كأنه قيل : لغد لا تعرف النفس كنه عظمته ، وهوله . فالتنكير فيه للتعظيم ، وفي النفس للتقليل أو للتعريض بغفلة كلهم عن هذا النظر الواجب أفاده الكرخي .

{ واتقوا الله } كرر الأمر بالتقوى للتأكيد أو الأول في أداء الواجبان لأنه مقرون بالعمل ، فإن ما قدمت لغد عبارة عن أعمال الخير ، والثاني في ترك المحارم ، لاقترانه بقوله : { إن الله خبير بما تعملون } ورجح هذا الوجه بفضل التأسيس على التأكيد ، وأنت خبير بان التقوى تشمل كليهما فإنها على ما مر في أول البقرة هي التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك ، ولا وجه للتوزيع ، بل المقام مقام الاهتمام بأمر التقوى ، فالتأكيد أولى وأقوى ، ذكره الكرخي ، والمعنى لا تخفى عليه من ذلك خافية ، فهو مجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر .