تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلشَّهۡرُ ٱلۡحَرَامُ بِٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡحُرُمَٰتُ قِصَاصٞۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (194)

قال عكرمة ، عن ابن عباس ، والضحاك ، والسدي ، ومِقْسَم ، والربيع بن أنس ، وعطاء وغيرهم : لما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَمِرًا في سنة ست من الهجرة ، وحَبَسَه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت ، وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعْدة ، وهو شهر حرام ، حتى قاضاهم على الدخول من قابل ، فدخلها في السنة الآتية ، هو ومن كان [ معه ]{[3411]} من المسلمين ، وأقَصه الله منهم ، فنزلت في ذلك هذه الآية : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ }

وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا ليث بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزى ويُغْزَوا{[3412]} فإذا حضره أقام حتى ينسلخ{[3413]} .

هذا إسناد صحيح ؛ ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم - وهو مُخَيِّم بالحديبية - أن عثمان قد قتل - وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين - بايع أصحابه ، وكانوا ألفًا وأربعمائة تحتَ الشجرة على قتال المشركين ، فلما بلغه أن عثمان لم يقْتل كفّ عن ذلك ، وجنح إلى المسالمة والمصالحة ، فكان ما كان .

وكذلك لما فرغ من قتال هَوازِن يوم حنين وتَحَصَّن فَلُّهم بالطائف ، عَدَل إليها ، فحاصَرَها ودخل ذو القَعْدة وهو محاصرها بالمنجنيق ، واستمر عليها إلى كمال أربعين يومًا ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس{[3414]} . فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تُفْتَحْ ، ثم كر راجعًا إلى مكة واعتمر من الجعرانة ، حيث قسم غنائم حُنين . وكانت عُمْرته هذه في ذي القعدة أيضًا عام ثمان ، صلوات الله وسلامه عليه .

وقوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } أمْر بالعدل حتى في المشركين : كما قال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] . وقال : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهَاد ، ثم نسخ بآية الجهاد{[3415]} بالمدينة . وقد رَدّ هذا القول ابنُ جرير ، وقال : بل [ هذه ]{[3416]} الآية مدنية بعد عُمْرة القَضيَّة ، وعزا ذلك إلى مجاهد ، رحمه الله .

وقد أطلق هاهنا الاعتداء على الاقتصاص ، من باب المقابلة ، كما قال عمرو بن أم كلثوم :

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وقال ابن دريد :

لي استواء إن موالى استوا *** لي التواء إن تعادى التوا

وقال غيره :

ولي فرس للحلم بالحلم ملجم*** ولي فرس للجهل بالجهل مسرج

ومن رام تقويمي فإني مقوم*** ومن رام تعويجي فإني معوج

وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أمْرٌ لهم بطاعة الله وتقواه ، وإخبارٌ بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة .


[3411]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
[3412]:في جـ: "إلا يغزوا الغزو"، وفي أ: "إلا أن يقر ويقروا".
[3413]:المسند (3/345).
[3414]:الحديث بهذا المعنى في صحيح مسلم برقم (1059).
[3415]:في جـ، ط، أ، و: "بآية القتال".
[3416]:زيادة من جـ، ط، أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلشَّهۡرُ ٱلۡحَرَامُ بِٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡحُرُمَٰتُ قِصَاصٞۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (194)

{ الشهر الحرام بالشهر الحرام } قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه ، وكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته فقيل لهم هذا الشهر بذاك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به . { والحرمات قصاص } احتجاج عليه ، أي كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص . فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله ، وادخلوا عليهم عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم . كما قال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وهو فذلكة التقرير . { واتقوا الله } في الأنصار { ولا تعتدوا } إلى ما لم يرخص لكم . { واعلموا أن الله مع المتقين } فيحرسهم ويصلح شأنهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلشَّهۡرُ ٱلۡحَرَامُ بِٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡحُرُمَٰتُ قِصَاصٞۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (194)

{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } ( 194 )

وقوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } الآية ، قال ابن عباس ومجاهد ومقسم( {[1789]} ) والسدي والربيع والضحاك وغيرهم : نزلت في عمرة القضاء( {[1790]} ) وعام الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً حتى بلغ الحديبية سنة ست ، فصده كفار قريش عن البيت ، فانصرف ووعده الله أنه سيدخله عليهم ، فدخله سنة سبع ، فنزلت الآية في ذلك ، أي الشهر الحرام الذي غلبكم الله فيه وأدخلكم الحرم عليهم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه ، ومعنى { الحرمات قصاص } على هذا التأويل : أي حرمة الشهر وحرمة البلد وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد الشهر والقطان حين دخلتم .

وقال الحسن بن أبي الحسن : نزلت الآية في أن الكفار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يقاتل في الشهر الحرام ؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه ، فهموا بالهجوم عليه فيه وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يدافع فيه ، فنزلت : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص } ، أي هو عليكم في الامتناع من القتال أو الاستباحة بالشهر الحرام عليهم في الوجهين ، فأية( {[1791]} ) سلكوا فاسلكوا ، و { الحرمات } على هذا جمع حرمة عموماً : النفس والمال والعرض وغير ذلك( {[1792]} ) ، فأباح الله بالآية مدافعتهم . والقول الأول أكثر( {[1793]} ) .

وقالت فرقة : قوله : { والحرمات قصاص } مقطوع مما قبله( {[1794]} ) ، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام أن من انتهك حرمتك( {[1795]} ) نلت منه مثل ما اعتدى عليك به ، ثم نسخ ذلك بالقتال .

وقالت طائفة : ما تناول من الآية التعدي بين أمة محمد والجنايات ونحوها لم ينسخ ، وجائز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي عليه به إذا خفي( {[1796]} ) ذلك له ، وليس بينه وبين الله في ذلك شيء ، قاله الشافعي وغيره ، وهي رواية في مذهب مالك( {[1797]} ) .

وقالت طائفة منهم مالك : ليس ذلك له( {[1798]} ) ، وأمور القصاص وقف على الحكام( {[1799]} ) ، والأموال يتناولها قول النبي صلى الله عليه وسلم «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك »( {[1800]} ) .

وقرأ الحسن بن أبي الحسن «والحرْمات » بسكون الراء .

وقوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم } الآية ، اختلف في نسخ هذه الآية حسبما تقدم ، وسمي الجزاء على العدوان عدواناً كما قال { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] إلى غير ذلك( {[1801]} ) ، { واتقوا الله } ، قيل : معناه في أن لا تعتدوا ، وقيل : في أن لا تزيدوا على المثل .

وقال ابن عباس : «نزلت هذه الآية وما هو في معناها بمكة والإسلام لم يعزَّ فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعز دينه أمر المسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم وأمروا بقتال الكفار( {[1802]} ) » .

وقال مجاهد : «بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء ، وهي من التدريج في الأمر بالقتال » .


[1789]:- كمنبر، وهو ابن بَجْدَة، أو ابن بجْرة مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل وكان أيضا يسمى مولى ابن عباس لكثرة صحبته له ولزومه إياه. توفي سنة 101 هـ.
[1790]:- مصدر بمعنى القضاء. ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى مكة للعمرة ثلاث مرات.
[1791]:- بمعنى أي مسلك سلكوا فاسلكوه، لأن الإضافة لازمة (لأي) إما لفظا وإما معنى، والأفصح استعمالها بلفظ واحد للمذكر وللمؤنث لأنها اسم، والاسم لا تلحقه هاء التأنيث الفارقة بين المذكر والمؤنث كما في المصباح.
[1792]:- يعني أن (أل) في (الحرمات) على ما قاله الحسن بن أبي الحسن البصري هي للعموم، بمعنى أن كل حرمة يجري فيها القصاص فتدخل النفس والمال والعِرض والحرمات السابقة وغيرها – وعلى السبب الأول كما قاله ابن عباس ومن معه تكون (أل) للعهد.
[1793]:- هو ما قاله ابن عباس ومن معه. وقد عبّر بعض المفسرين عن ذلك بقوله: والقول الأول أشهر.
[1794]:- أي أنه لا يتعلق بأمر الحج، وإنما هو في أمر آخر.
[1795]:- إذا كان من الكفار.
[1796]:- أي إذا كان ذلك لا يؤدي إلى فتنة واصطدام.
[1797]:- بل هي الرواية المشهورة عند المالكية، وتُعرف عندهم بمسألة الظفر، وقد أشار إليها شيخ المالكية في مختصره في كتاب "الشهادات" بقوله: وإن قدر على شيئه فله أخذه إن يكن غير عقوبة، وأمِن فتنة ورذيلة، فهي عندهم في الأموال، وأما العقوبات فإنما يتولاها الحاكم الشرعي، وانظر حديث هند: (خذي ما يكفيك وولدك) في كتاب المظالم من صحيح البخاري.
[1798]:- هذه رواية معروفة عند المالكية ولكنها ضعيفة، وقد أشار إليها شيخ المالكية في مختصره في باب "الوديعة" بقوله: وليس له الأخذ منها لمن ظلمه بمثلها.
[1799]:- يأتي ذلك حتى على الرواية الأولى المشهورة عند المالكية، وأما الرواية الأخرى فسواء فيها أمور القصاص وأمور الأموال.
[1800]:- هذا الحديث أخرجه أبو داوذ، والترمذي، والدارقطني، وغيرهم عن جماعة من الصحابة، وهو حديث مُتكلَّم فيه، إلا أنه بمجموع طُرقه يقوى ويكون حسنا، ومن ثَمَّ حكاه الإمام الترمذي بقوله: "حديث حسن غريب"، وقد أجاب الإمام ابن رشد عن قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تخن من خانك) بأن معناه: ولا تأخذ أكثر من حقك فتكون خائنا، وأما من أخذ حقه فليس بخائن، ويؤيد الرواية المشهورة قول الله تعالى: [فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم]، ومن هذا ما إذا كان شخصان لكل منهما حق على الآخر، فجحد أحدهما صاحبه فللآخر أن يجحده فيما يعادل حقه، إذ يجب حفظ المال وصيانته بكل ما يمكن من الوسائل، وقد قال الله تعالى: [ولا تؤتوا السفهاء أمولكم التي جعل الله لكم قياما].
[1801]:- أي للمقابلة كما قال الله تعالى بعد قول المنافقين: [إنما نحن مستهزؤون، الله يستهزئ بهم] من الآيتين (14،15) من سورة البقرة ، وكما قال تعالى: [ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين].
[1802]:- معنى ذلك أن هذه الآية نُسخت بآيات قتال الكفار التي نزلت بعدها.