{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي : تراه عيانا ، كما رواه البخاري ، رحمه الله ، في صحيحه : " إنكم سترون ربكم عَيَانا " . {[29551]} وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح ، من طرق متواترة عند أئمة الحديث ، لا يمكن دفعها ولا منعها ؛ لحديث أبي سعيد وأبي هريرة - وما في الصحيحين - : أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : " هل تُضَارُّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سَحَاب ؟ " قالوا : لا . قال : " فإنكم تَرَون ربكم كذلك " . {[29552]} وفي الصحيحين عن جرير قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال : " إنكم تَرَون ربكم كما ترون هذا القمر ، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا " {[29553]} وفي الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جَنَّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فِضَّة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله إلا رِدَاء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " . {[29554]} وفي أفراد مسلم ، عن صهيب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ " قال : " يقول الله تعالى : تريدون شيئا أزيدكم ؟ فيقولون : ألم تُبَيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟ " قال : " فيكشف الحجاب ، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ، وهي الزيادة " . ثم تلا هذه الآية : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] . {[29555]}
وفي أفراد مسلم ، عن جابر في حديثه : " إن الله يَتَجلَّى للمؤمنين يضحك " {[29556]} - يعني في عرصات القيامة - ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون{[29557]} إلى ربهم عز وجل في العرصات ، وفي روضات الجنات .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا عبد الملك بن أبجر ، حدثنا ثُوَير{[29558]} بن أبي فاختة ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، ينظر إلى أزواجه وخدمه . وإن أفضلهم منزلة لينظر إلى وجه الله كل يوم مرتين " . {[29559]}
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد ، عن شَبابة ، عن إسرائيل ، عن ثُوَير قال : " سمعت ابن عمر . . " . فذكره ، قال : " ورواه عبد الملك بن أبجر ، عن ثُوَير ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قوله " . وكذلك رواه الثوري ، عن ثُوَير ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، لم يرفعه{[29560]} ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن ، ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مَواضِعَ من هذا التفسير ، وبالله التوفيق{[29561]} . وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة ، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام . وهُدَاة الأنام .
ومن تأول ذلك بأن المراد ب { إِلَى } مفرد الآلاء ، وهي النعم ، كما قال الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } فقال تنتظر الثواب من ربها . رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد . وكذا قال أبو صالح أيضا - فقد أبعد هذا القائل{[29562]} النجعة ، وأبطل فيما ذهب إليه . وأين هو من قوله تعالى : { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } ؟[ المطففين : 15 ] ، قال الشافعي ، رحمه الله : ما حَجَب الفجار إلا وقد عَلم أن الأبرار يرونه عز وجل . ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة ، وهي قوله : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال ابن جرير :
حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا آدم ، حدثنا المبارك عن الحسن : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } قال : حسنة ، { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال تنظر إلى الخالق ، وحُقّ لها أن تَنضُر وهي تنظر إلى الخالق{[29563]} .
إلى ربها ناظرة تراه مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه ولذلك قدم المفعول وليس هذا في كل الأحوال حتى ينافيه نظرها إلى غيره وقيل منتظرة إنعامه ورد بأن الانتظار لا يسند إلى الوجه وتفسيره بالجملة خلاف الظاهر وأن المستعمل بمعناه لا يتعدى بإلى وقول الشاعر وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نعما بمعنى السؤال فإن الانتظار لا يستعقب العطاء .
وقوله تعالى : { إلى ربها ناظرة } جملة هي في موضع خبر بعد خبر ، وقال بعض النحويين : { ناضرة } نعت ل { وجوه } ، و { إلى ربها ناظرة } خبر عن { وجوه } ، فعلى هذا كثر تخصص الوجوه فحسن الابتداء بها . و { ناضرة } معناه ناعمة ، والنضرة النعمة وجمال البشرة ، قال الحسن : وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق ، وقوله تعالى : { إلى ربها ناظرة } حمل هذه الآية أهل السنة على أنها متضمنة رؤية المؤمنين لله تعالى ، وهي رؤية دون محاذاة ولا تكييف ولا تحديد كما هو معلوم ، موجود لا يشبه الموجودات كذلك هو لا يشبه المرئيات في شيء ، فإنه ليس كمثله شيء لا إله إلا هو ، وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «حدثتكم عن الدجال أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور وأنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا »{[11479]} ، وقال صلى الله عليه وسلم : «إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته »{[11480]} ، وقال الحسن : تنظرون إلى الله تعالى بلا إحاطة ، وأما المعتزلة الذين ينفون رؤية الله تعالى ، فذهبوا في هذه الآية إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة أو إلى ثوابه أو ملكه ، فقدروا مضافاً محذوفاً ، وهذا وجه سائغ في العربية كما تقول ، فلا ناظر إليك في كذا ، أي إلى صنعك في كذا ، والرواية إنما تثبتها بأدلة قاطعة غير هذه الآية ، فإذا ثبتت حسن تأويل أهل السنة في هذه الآية وقوي ، وذهب بعض المعتزلة في هذه الآية إلى أن قوله { إلى } ليست بحرف الجر وإنما هي إلى واحد الآلاء فكأنه قال نعمة ربها منتظرة ، أو { ناظرة } من النظر بالعين ، ويقال نظرتك بمعنى انتظرتك ، ومنه قول الحطيئة : [ البسيط ]
وقد نظرتكم أبناء عائشة*** للخمس طال بها حبسي وتبساسي{[11481]}
والتبساس أن يقال للناقة بس بس لتدر على الحالب ، وفسر أبو عبيدة في غريبه هذا البيت على رواية أخرى وهي : طال بها حوزي وتنساسي بالنون وهو السير الشديد فتأمله .