وقال عكرمة : تنظر إلى ربها نظراً{[58707]} ، وحكى الماوردي عن ابن عمر وعكرمة ومجاهد : تنظر أمر ربها ، وليس معروفاً إلا عن مجاهد وحده{[58708]} .
وجمهور أهل السُّنَّة تمسك بهذه الآية لإثبات أن المؤمنين يرون الله - سبحانه وتعالى - يوم القيامة وأما المعتزلة فاحتجوا بقوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ، ويقولون : النظر المقرون ب «إلى » ليس اسماً للرؤية ، بل لمقدمة الرؤية ، وهي تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته ، ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة ، وكالإصغاء بالنسبة إلى السمع ويدل على ذلك قوله تعالى : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }[ الأعراف : 198 ] فأثبت النظر حال عدم الرؤية ، ويقال : نظر إليه شزراً ، ونظر إليه غضبان ونظر راضياً ، ولا يقال ذلك في الرؤية ، ويقال : وجوه متناظرة ، أي : متقابلة ويقال : انظر إليه حتى تراه ، فتكون الرؤية غاية للنظر ، وأن النظر يحصل والرؤية غير حاصلة وقال : [ الوافر ]
5001 - وجُوهٌ نَاظرَاتٌ يَوْمَ بَدْرٍ*** إلى الرَّحْمنٍ تَنتظِرُ الخَلاصَا{[58709]}
ولا رؤية مع النظر المقرون ب «إلى » ، وقال تعالى : { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } [ آل عمران : 77 ] ومن قال : لا يراهم ، كفر ، قالوا : ويمكن أن يكون معنى قوله تعالى : { نَاظِرةٌ } أي : منتظرة كقولك : أنا أنظر إليك في حاجتي ، أو يكون «إلى » مفرد «آلاء » وهي النعم - كما تقدم - والمراد : إلى ثواب ربها ؛ لأن الأدلة العقلية والسمعية لما منعت الرؤية وجب التأويل ، أو يكون المعنى أنها لا تسأل ، ولا ترغب إلا إلى الله عز وجل ، كقوله : «اعْبُد الله كأنَّك تَرَاهُ » .
قال ابن الخطيب{[58710]} : والجواب : لنا مقامان :
أحدهما : أن نقول : النظر هو الرؤية كقول موسى عليه الصلاة والسلام : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] ، فلو كان المراد تقليب الحدقة نحو المرئي لاقتضت الآية إثبات الجهة والمكان ، ولأنه أخر النظر عن الإرادة فلا يكون تقليب .
المقام الثاني : سلمنا ما ذكرتموه من أن النظر تقليب الحدقة للرؤية ، لكن يقدر حمله على الحقيقة ، فيجب الحمل على الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، وهو أولى من حمله على الانتظار لعدم الملازمة ؛ لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية ، ولا تعلق بينه وبين الانتظار .
وأم قولهم : نحمله على الانتظار قلنا : الذي هو بمعنى الانتظار ، وفي القرآن غير مقرون ، كقوله تعالى : { انظرونا نَقْتَبِسْ } [ الحديد : 13 ] ، { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } [ الأعراف : 53 ] ، والذي ندّعيه أن النظر المقرون ب «إلى » ليس بمعنى الرؤية ؛ لأن وروده بمعنى الرؤية ، أو بالمعنى الذي يستعقب الرؤية ظاهر ، فلا يكون بمعنى الانتظار دفعاً للاشتراك وقوله : «وجوه ناظرات يوم بدر » . شعر موضوع ، والرواية الصحيحة : [ الوافر ]
5002 - وجُوهٌ نَاظِراتٌ يَوْمَ بَكْرٍ*** إلى الرَّحمنِ تَنتظِرُ الخَلاصَا{[58711]}
والمراد من هذا الرحمن : مسيلمة الكذاب ؛ لأنهم كانوا يسمُّونه رحمن اليمامة ، وأصحابه كانوا ينظرون إليه ويتوقعون منه الخلاص من الأعداء .
وقولهم : هو مفرد «آلاء » أي : نعمة ربها .
قلنا : فيصدق على أيِّ نعمة كانت .
وإن قلنا : لأنه إنما كان للماهية التي يصدق عليها أنها نعمة ، فعلى هذا يكفي في تحقيق مسمّى هذه اللفظة أي جزء فرض من أجزاء النعمة ، وإن كانت غاية في القلة والحقارة ، وكيف يمكن أن تكون من حاله الثواب يومئذ في النعم العظيمة ، فكيف ينتظرون نعمة قليلة ، وكيف يمكن أن يكون من حاله كذلك أن يبشر بأنه يتوقع الشيء الذي يطلق عليه اسم النعمة ، ومثال هذا : أن يبشر سلطان الأرض بأنه سيصير حاله في العظمة والقوة بعد سنة بحيث يكون متوقعاً لحصول نعمة واحدة فكما أن ذلك فاسد ، فكذا هاهنا سلمنا أن النظر المتعدي ب «إلى » المقرون بالوجوه جاء في اللغة بمعنى الانتظار ، ولكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه ؛ لأن لذة الانتظار مع تعين الوقوع كانت حاصلة في الدنيا ، فلا بد وأن تحصل في الآخرة زيادة حتى يحصل الترغيب في الآخرة ، ولا يجوز أن يكون ذلك هو قرب الحصول .
قال القشيري : وهذا باطل ؛ لأن واحد «الآلاء » يكتب بالألف لا بالياء .
وقرب الحصول معلوم بالعقل فبطل التأويل .
وأما قولهم : المراد ثواب ربها ، فهو خلاف الظاهر ، هذا ما ذكره ابن الخطيب .
وروى القرطبي في «تفسيره » قال{[58712]} : خرج «مسلم » عن جرير بن عبد الله قال : «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إنَّكُمْ سَتَروْنَ ربَّكمْ عياناً كمَا تَرونَ القَمَرَ لا تُضَامُونَ فِي رُؤيتِهِ ، فإن اسْتَطَعْتُم ألاَّ تُغْلبُوا عَلى صلاةٍ قَبْلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وصلاةٍ قَبْلَ غُروبِهَا فافْعَلُوا " ثُمَّ قَرَأ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب } " متفق عليه{[58713]} .
وفي كتاب «النسائي » عن صهيب - رضي الله عنه - قال : «فيُكشَفُ الحِجابُ فيَنظُرونَ إليْهِ ، فواللَّهِ ما أعْطَاهُمْ شَيْئاً أحبَّ إليْهِمْ من النَّظرِ ، ولا أقَرَّ لأعْيُنِهِمْ »{[58714]} .
وروى أبو إسحاق الثعلبيُّ عن الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يتَجَلَّى ربُّنَا - سُبْحانَهُ وتَعَالَى - حتَّى يُنْظَرَ إلى وَجْههِ فيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّداً ، فيقُولُ اللَّه تعالى : ارفَعُوا رُءُوسكمْ فَليْسَ هذا بِيومِ عِبَادةٍ »{[58715]} .
وقال القرطبي{[58716]} : وقيل : أضاف النظر إلى العين ؛ لأن العين في الوجه فهو كقوله تعالى : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ البقرة : 25 ] والماء يجري في النهر لا النهر ثم قد يكون الوجه بمعنى العين ، قال تعالى : { فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً } [ يوسف : 93 ] ، أي على عينيه ، ثم لا يبعد قلب العادة غداً حتى يخلق النظر في الوجه وهو كقوله تعالى { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ } [ الملك : 22 ] .
«فقيل : يا رسُول اللَّهِ ، كيف يَمشُونَ في النَّار علَى وُجوهِهم ؟ قال : " الَّذي أمْشاهُمْ عَلى أقدامهِم قَادِرٌ على أنْ يُمشِيهمْ على وُجوُهِهِم " {[58717]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.