فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ} (23)

{ إلى ربها ناظرة } أي تنظر إليه عيانا بلا حجاب ، هكذا قال جمهور أهل العلم والمراد به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون إلى ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر .

قال ابن كثير وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام ، وقال مجاهد إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب ، وروي نحوه عن عكرمة ، وقيل لا يصح هذا إلا عن مجاهد وحده ، قال الأزهري وقول مجاهد خطأ لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار لأن قول القائل نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين ، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته ، فإذا أرادوا نظر العين قالوا نظرت إليه ، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جدا .

ويشهد لصحة هذا أن النظر الوارد في التنزيل بمعنى الانتظار بمعنى الانتظار كثير ولم يوصل في موضع بإلى قوله { انظرونا نقتبس من نوركم } وقوله { هل ينظرون إلا تأويله } وقوله { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } والوجه إذا وصف بالنظر عدّى بإلى لم يحتمل غير الرؤية .

والأحاديث الصحيحة تعضد قول من فسر النظر في هذه الآية بالرؤية وسيأتي بعضها قال ابن عباس في الآية تنظر إلى الخالق ، وعنه قال تنظر إلى وجه ربها .

وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في الآية ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة . أخرجه ابن مردويه .

وعن أبي هريرة قال : " قال الناس يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ، قالوا لا يا رسول الله ، قال فهل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ، قالوا لا يا رسول الله ، قال فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما ( {[1665]} ) .

وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه .

وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر والدارقطني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جناته وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة ، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وجود يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } " وأخرجه أحمد في المسند من حديثه بلفظ " وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين " .

وأخرج النسائي والدارقطني وصححه وأبو نعيم عن أبي هريرة قال : " قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا قال هل ترون الشمس في يوم لا غيم فيه ، وترون القمر في ليلة لا غيم فيها قلنا نعم ، قال فإنكم سترون ربكم عز وجل حتى أن أحدكم ليحاور ربه محاورة فيقول عبدي هل تعرف ذنب كذا وكذا فيقول : ألم تغفر لي ؟ فيقول بمغفرتي صرت إلى هذا " .

وقد تظافرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى ، وقد رواها نحو من عشرين صحابيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآيات القرآن فيها مشهورة ، ولاعتراضات المبتدعة من المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة عليها أجوبة معروفة في كتب الكلام من أهل السنة ، وكذلك باقي شبههم وأجوبتها مستفاضة في كتب أهل الحق ، وليس هذا موضع ذكرها ، وقد قدمنا أن أحاديث الرؤية متواترة فلا نطيل بذكرها وهي تأتي في مصنف مستقل ، ولم يتمسك من نفاها واستبعدها بشيء يصلح للتمسك به لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله .

وقد أطال الحافظ المتكلم محمد بن أبي بكر القيم الجوزي رحمه الله تعالى في إثبات رؤيته تعالى يوم القيامة في كتابه ( حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ) ومن أحب النظر في أدلة الفريقين فعليه برسالة الشوكاني المسماة بالبغية في مسألة الرؤية جمع فيها جميع ما استدل به النافون والمثبتون من الأدلة العقلية والنقلية .


[1665]:وقد ثبت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحد الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها، كحديث أبيّ وأبي هريرة، وهما في " الصحيحين" أن ناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال:" هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟" قالوا: لا يا رسول الله، قال:" إنكم ترون ربكم كذلك" وفي "الصحيحين" عن جابر قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم القمر ليلة بدر فقال:" إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم أن لا تقلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا".