الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ} (23)

قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } : فيه أوجهٌ أحدُها : أَنْ يكون " وجوهٌ " مبتدأً ، و " ناضِرةٌ " نعتٌ له ، و " يومَئذٍ " منصوبٌ ب " ناضِرة " و " ناظرةٌ " خبرُه ، و " إلى ربِّها " متعلِّقٌ بالخبرِ ، والمعنى : أنَّ الوجوهَ الحسنة يومَ القيامة ناظرةٌ إلى اللَّهِ تعالى ، وهذا معنىً صحيحٌ وتخريجٌ سَهْلٌ . والنَّاضرَةُ : من النُّضْرَةِ وهي : التنعُّمُ ، ومنه غُصْنٌ ناضِر . الثاني : أَنْ يكونَ " وجوهٌ " مبتدأً أيضاً ، و " ناضِرَةٌ " خبرُه ، و " يومَئذٍ " منصوبٌ بالخبرِ كما تقدَّم . وسَوَّغَ الابتداءَ هنا بالنكرةِ كَوْنُ الموضعِ موضعَ تفصيلٍ كقولِه :

4416 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فثوبٌ لَبِسْتُ وثوبٌ أَجُرّْ

ويكون " ناظرةٌ " نعتاً لوجوه ، أو خبراً ثانياً ، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ . و " إلى ربِّها " متعلقٌ ب " ناظرة " كما تقدَّم . وقال ابنُ عطية : " وابتدأ بالنكرة/ لأنها تخصَّصَتْ بقوله " يومئذٍ " . وقال أبو البقاء : " وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ لحصول الفائدةِ " . قلت : أمَّا قولُ ابنِ عطيِّةَ ففيه نظرٌ ؛ لأنَّ قولَه : " تخصَّصَتْ بقولِه : " يومئذٍ " هذا التخصيصُ : إمَّا لكونِها عاملةً فيه ، وهو مُحالٌ ؛ لأنها جامدةٌ ، وإمَّا لأنَّها موصوفةٌ به وهو مُحال أيضاً ؛ لأنَّ الجُثَثَ لا تُوْصَفُ بالزمان كما لا يُخْبَرُ به عنها . وأمَّا قولُ أبي البقاءِ فإنْ أرادَ بحصولِ الفائدةِ ما قدَّمْتُه من التفصيل فصحيحٌ ، وإنْ عَنَى ما عناه ابنُ عطيةَ فليس بصحيحٍ لِما عَرَفْتَه .

الثالث : أَنْ يكونَ " وجوهٌ " مبتدأً ، و " يومئذٍ " خبرَه ، قاله أبو البقاء . وهذا غَلَطٌ مَحْضٌ من حيث المعنى ، ومِنْ حيثُ الصناعةُ . أمَّا المعنى فلا فائدةَ في الإِخبارِ عنها بذلك . وأمَّا الصناعةُ فلأنَّه لا يُخْبَرُ بالزمانِ عن الجُثَثِ ، وإنْ وَرَدَ ما ظاهرهُ ذلك تُؤُوِّل نحو : " الليلةَ الهلالُ " الرابع : أَنْ يكونَ " وجوهٌ " مبتدأً و " ناضرةٌ " خبرَه ، و { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } جملةً في موضعِ خبرٍ ثانٍ ، قاله ابن عطية . وفيه نظرٌ ؛ لأنَّه لا يَنْعَقِدُ منهما كلامٌ ، إذ الظاهرُ تعلُّقُ " إلى " ب " ناظرة " ، اللهمَّ إلاَّ أَنْ يعنيَ أنَّ " ناظرةٌ " خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ ، أي : هي ناظرةٌ إلى ربِّها ، وهذه الجملةُ خبرٌ ثانٍ . وفيه تَعَسُّفٌ .

الخامس : أَنْ يكونَ الخبرُ لوجوه مقدراً ، أي : وجوهٌ يومئذٍ ثَمَّ ، و " ناضرةٌ " صفةٌ ، وكذلك " ناظرةٌ " ، قاله أبو البقاء . وهو بعيدٌ لعدمِ الحاجةِ إلى ذلك . ولا أدري ما الذي حَمَلهم على هذا مع ظهورِ الوجهِ الأولِ وخُلُوصِه من هذه التعسُّفاتِ ؟ وكونُ " إلى " حرفَ جرّ ، و " ربِّها " مجروراً بها هو المتبادَرُ للذِّهْنِ .

وقد خَرَّجه بعضُ المعتزلةِ : على أَنْ تكونَ " إلى " اسماً مفرداً بمعنى النِّعْمَةِ مضافاً إلى الرَّبِّ ، ويُجمع على " آلاء " نحو : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] وقد تقدَّم أنَّ فيه لغاتٍ أربعاً ، و " ربِّها " خفضٌ بالإِضافةِ ، و " إلى " مفعولٌ مقدمٌ ناصبُه " ناظرةٌ " بمعنى مُنْتَظرة . والتقدير : وجوهٌ ناضِرَةٌ منتظرةٌ نعمةَ ربِّها . وهذا فِرارٌ من إثباتِ النظر للَّهِ تعالى على مُعْتَقَدِهم .

والزمخشريُّ تمحَّل لمذهب المعتزلة بطريق أخرى من جهةِ الصناعةِ النحويةِ فقال بعد أن جَعَلَ التقديمِ في " إلى ربها " مُؤْذِناً بالاختصاص " والذي يَصِحُّ معه أَنْ يكونَ مِنْ قولِ الناس : " أنا إلى فلانٍ ناظرٌ ما يَصْنَعُ بي " يريد معنى التوقعِ والرجاءِ . ومنه قولُ القائل :

وإذا نَظَرْتُ إليك مِنْ ملكٍ *** والبحرُ دونَك زِدْتَني نِعَما

وسمعتُ سَرَوِيَّةً مُسْتجديَةً بمكة وقت الظهرِ حين يُغْلِقُ الناسُ أبوابَهم ويَأْوُوْن إلى مقايِلهم تقول : " عُيَيْنتي ناظِرَةٌ إلى اللَّهِ وإليكم " والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمةَ والكرامةَ إلاَّ مِنْ ربِّهم " قلت : وهذا كالحَوْمِ على قولِ مَنْ يقولُ : إنَّ " ناظرة " بمعنى مُنْتظرة . إلاَّ أنَّ مكيَّاً قد رَدَّ هذا القولَ فقال : " ودخولُ " إلى " مع النظر يَدُلُّ على أنه نَظَرُ العَيْنِ ، وليس من الانتظار ، ولو كان من الانتظارِ لم تَدْخُلْ معه " إلى " ؛ ألا ترى أنَّك لا تقول : انتظرتُ إلى زيدٍ ، وتقول : نظرْتُ إلى زيد ، ف " إلى " تَصْحَبُ نظرَ العينِ لا تصحَبُ نَظَرَ الانتظار ، فَمَنْ قال : إن " ناظرة " بمعنى مُنتظرة فقد أخطأ في المعنى وفي الإِعراب ، ووَضَعَ الكلامَ في غيرِ موضعِه " .

والنُّضْرَةُ : طَراوةُ البَشَرةِ وجمالُها ، وذلك مِنْ أثرِ النُّعمةِ يُقال : نَضِر وَجْهُه فهو/ ناضِرٌ . وقال بعضهم : مُسَلَّمٌ أنه مِنْ نَظِرِ العينِ ، إلاَّ أنَّ ذلك على حَذْفِ مضافٍ ، أي : ثوابَ ربِّها ، ونحوُه . قال مكي : " لو جاز هذا لجازَ : نَظَرْتُ إلى زيد ، أي : إلى عطاءِ زيدٍ . وفي هذا نَقْضٌ لكلامِ العربِ وتَخْليطٌ في المعاني " . ونَضَره الله ونَضَّره مخففاً ومثقلاً ، أي : حَسَّنه ونَعَّمه ، وفي الحديث : " نضرَ اللَّهُ امرَأً سَمِع مقالتي فوَعَاها ، فأدَّاها كما سَمِعَها " يُرْوَى بالوجهَيْنِ . وقيل للذهب : " نُضار " من ذلك . ويُقال له : النَّضْرُ أيضاً ، وأخضرُ ناضِرُ ، ك أسودُ حالكٌ ، وقَدَحٌ نُضارٌ ونُضارٍ ، يُرْوَى بالإِتباع والإِضافة .

والعامَّة على " ناضِرَة " بألفٍ . وقرأ زيدُ بن علي " نَضِرَة " بدونِها ، كفَرِحَ فهو فَرِحٌ .